أولى

العدالة الاجتماعية في فكر ومشروع جمال عبد الناصر!

‭}‬ د. محمد سيد أحمد
بمناسبة ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر الثالثة والخمسين وقبل حلول 28 سبتمبر/ أيلول هذا العام جاءني العديد من الدعوات للحديث عن فكر ومشروع جمال عبد الناصر، وبما أنّ فكره ومشروعه يتصف بالتنوّع والثراء بحيث لا تكفي ندوة أو محاضرة أو لقاء مهما طالت مدّته لإلقاء الضوء عليه فقد قرّرت هذا العام التركيز على قضية العدالة الاجتماعية باعتبارها واحدة من أبرز القضايا التي شغلت فكر عبد الناصر واحتلت مساحة واسعة في مشروعه…
وقد تبلورت فكرة العدالة الاجتماعية لدى جمال عبد الناصر قبل قيامه بثورة 23 يوليو/ تموز 1952، حيث أدرك حقيقة المجتمع المصري الذي عُرف بمجتمع النصف في المئة، ذلك النصف الذي يسيطر على الثروة والسلطة والنفوذ مقابل السواد الأعظم من المصريين الذين يعيشون في ظروف صعبة للغاية ومعاناة في توفير الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة.
ويلخص عبد الناصر أحوال المجتمع المصري عشية قيام الثورة في إحدى خطبه حيث يقول: «500 مليون جنيه مع 700 واحد… طب والـ 27 مليون عندهم إيه؟ ده الوضع اللي ورثناه.. ده الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية.. لكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد يكسب نص مليون جنيه في السنة، وبعدين كاتب لأولاده أسهم كلّ واحد نص مليون جنيه، طب والباقيين من الناس اللي ليهم حق في هذه البلد… أيه نصيبهم في هذه البلد.. يورثوا إيه في هذه البلد…؟
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون الغنى إرثاً والفقر إرثاً والنفوذ إرثاً والذلّ أرثاً.. لكن نريد العدالة الاجتماعية، نريد الكفاية والعدل، ولا سبيل لنا بهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات، ولكلّ فرد حسب عمله، لكلّ واحد الفرصة، لكلّ واحد العمل، ثم لكلّ واحد ناتج عمله».
وتكشف كلمات جمال عبد الناصر كيف كانت أحوال المصريين! وكيف كانت الخريطة الطبقية! وتكشف أيضاً رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكّنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري، وقدرته الفائقة على التشخيص السليم ووضع روشتة العلاج، والذي تمثل في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحلّ الأمثل الذي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات، لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الإقطاعيين والرأسماليين والأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ، فكان قانون الإصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية، وهو ما أتاح الفرصة لتذويب الفوارق بين الطبقات، وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع، وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل، حيث تغيّرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في تاريخ المجتمع المصري.
وشكل قانون الإصلاح الزراعي التعبير الحقيقي عن العدالة الاجتماعية في فكر جمال عبد الناصر ومشروعه، فقد كان وضع الملكية الزراعية في مصر سبباً رئيسياً لبؤس الفلاحين، وهم الغالبية العظمى من المصريين في ذلك الوقت، ففي عام 1952 عشية الإصلاح الزراعي كان المالكون لأكثر من 200 فدان أقلّ من 1% من إجمالي عدد ملاك الأراضي الزراعية ويملكون 30% من إجمالي مساحة الأرض الزراعية، في حين بلغت نسبة الذين يملكون أقلّ من خمسة أفدنة 94% بنسبة 35% من إجمالي المساحة، أما نسبة الـ 35% الباقية من جملة مساحة الأرض الزراعية فكانت موزعة بين ملكيات أقلّ من 200 فدان إلى أكثر من خمسة أفدنة وبلغت نسبتهم 5%، لذلك جاء قانون الإصلاح الزراعي بعد 46 يوماً فقط من الثورة ليقول جمال عبد الناصر للفلاحين الذين يشكلون السواد الأعظم من الشعب أنني معكم أشعر ببؤسكم، وما جئت بثورتي إلا من أجل رفع الظلم عنكم وتحقيق العدالة الاجتماعية التي عشتم تحلمون بها.
وتجسّدت فكرة العدالة الاجتماعية لدى جمال عبد الناصر في الاستجابة السريعة للفقراء والكادحين والقدرة على فهم احتياجاتهم دون تصريح، ففي إحدى زياراته لصعيد مصر توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ عبد الناصر ومرافقوه برجل بسيط يصيح «أنا جابر السوهاجي يا ريس» ويُلقي بصرّة داخل الديوان الذي يقف فيه عبد الناصر ورفاقه وقعت بين أرجلهم، وتملّك الحضور بعض من الارتباك نتيجة المفاجأة، وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرّة بحذر، وبدأ يفتحها وكانت المفاجأة أنّ الصرّة لا تحوي غير رغيف من الخبز الناشف (بتاو) وبصلة في منديل يُعرف لدى أهل الريف بالمحلاوي، ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمى الرجل بهذه الصرّة؟! إلا أنّ جمال عبد الناصر كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة، وأطلّ برأسه بسرعة من القطار وأخذ يرفع صوته في اتجاه الرجل الذي ألقى بالصرّة قائلاً له: «الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت». وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريراً عاجلاً عن عمال التراحيل وأحوالهم المعيشية، وفي خطابه مساء اليوم نفسه لجماهير أسوان قال: «يا عم جابر أحب أقولك إنّ الرسالة وصلت، وإننا قرّرنا زيادة أجر عمال التراحيل إلى 25 قرشاً في اليوم بدلاً من 12 قرشاً فقط، كما قرّرنا تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة في مصر».
ولم يكتفِ جمال عبد الناصر بتطبيق العدالة الاجتماعية على شعبه، بل تجسّدت في حياته اليومية داخل أسرته، فلم يسمح لأبنائه أن يتعلّموا إلا في المدارس الحكومية مثل غالبية أبناء الشعب المصري، ومن لم يتمكن من النجاح والتفوّق لم يحصل على استثناء، فعندما نجحت ابنته منى في الثانوية العامة ولم تحصل على مجموع يؤهّلها لدراسة الهندسة بجامعة القاهرة عبر مكتب التنسيق، وطلبت وساطة محمد حسنين هيكل لدى عبد الناصر لعمل استثناء رفض بشدة، وفي العام نفسه دخل ابن سائقه الخاص كلية الهندسة في جامعة القاهرة، ودخلت ابنته كلية الهندسة في الجامعة الأميركية وكان يلتحق بها الذين لم يحصلوا على مجاميع تمكنهم من دخول الجامعات الحكومية، وتحمّلت الأسرة أعباء إضافية ليتمكنوا من دفع مصروفات الجامعة الخاصة.
وككلّ الآباء من الموظفين الذين ينتمون للشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، والذين لديهم عدد كبير من الأبناء بنين وبنات، وينفقون كلّ دخولهم على تربية الأبناء، وعندما تصبح البنات في سن الزواج ويتقدّم لهن أحد الشباب للزواج يكون على الأب أن يقوم بالمشاركة في إعداد بيت الزوجية على عادة المصريين، ويجد الأب نفسه في مأزق لأنه لم يدّخر شيئاً لهذا اليوم، ويضطر غالباً للاستدانة، وعندما جاء هذا اليوم على جمال عبد الناصر وكان عليه أن يشارك في تجهيز بيت الزوجية لكريمتيه هدى ومنى اضطر أن يستبدل معاشه كأيّ موظف في الدولة لكي يتمكن من الوفاء بمتطلبات الزواج.
هذه بعض ملامح العدالة الاجتماعية في فكر ومشروع جمال عبد الناصر سواء على المستوى العام أو الخاص، لذلك لا عجب أن يبقى في ذاكرة جموع الفقراء، فقد انحاز لهم قولاً وفعلاً، واتخذ من أجلهم العديد من الإجراءات الحاسمة، ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم، لذلك لا تزال جموع الفقراء في كلّ بقاع الأرض تعتبره رمزاً للعدالة الاجتماعية، وفي ذكرى رحيله من كلّ عام يجدّد الفقراء عهدهم معه، ويحلمون بالعدالة الاجتماعية المفقودة.
اللهم بلغت اللهم فاشهد…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى