أولى

طوفان الأقصى: سقوط نظرية الجيش الذي لا يُقهر

‬ د. جمال زهران*

أشيعت مقولة، هي أنّ جيش الكيان الصهيوني هو الجيش الذي لا يُقهر في الإقليم العربي والشرق أوسطي، بهدف الردع والتخويف، لأنظمة الإقليم. حيث إنّ هذا الكيان تمّ تسليحه بأحدث أنواع الأسلحة في كلّ أفرع الجيش (طيران – بحرية – مشاة). ويتحدّثون عن منظومة القبة الحديدية، التي لا يمكن تجاوزها أو اختراقها، وفقاً لما يُشاع، وذلك بهدف أن يعيش أفراد هذا الكيان في أمان واستقرار. فضلاً عن امتلاك أحدث أنواع الأسلحة، فإنها تتبع أساليب إرهابية في القتل والتشريد والاعتقال والتعذيب، والسجون بأحكام مفبركة من القضاء الصهيوني. كما أن قوات الجيش والشرطة في داخل أراضي فلسطين المحتلة، من أعضاء الكيان، يبذلون، بل ويسخرون كل جهودهم في حماية المستوطنات والمستوطنين الذين يعيشون داخلها، على الرغم من عدم شرعية ذلك دولياً، ورفض الأمم المتحدة إقامة هذه المستوطنات التي تقام على أراضٍ محتلة، وفقاً لقرارها رقم (181) لسنة 1947م. ومن ثم نحن أمام مشهد مأساوي استمر لمدة 75 سنة منذ عام 1948 وحتى الأخير (2023م)، حيث اندلعت عملية «طوفان الأقصى»، يوم السابع من أكتوبر، التي أضحت نقطة تاريخية فاصلة.
فعلى خلفية ما حدث في حرب يونيو 1967م، وتمكن الكيان الصهيوني من الاستيلاء والاحتلال على مناطق واسعة من الأراضي العربية (كل سيناء عدا بور فؤاد، وهضبة الجولان، والضفة الغربية وغزة)، أي في مصر وسورية والأردن، وفي خلال 6 ساعات، مما أضفى على الجيش الصهيوني، المدعوم أميركياً، بطبيعة الحال، هالة كبيرة، وأشاع الكيان الصهيوني عن نفسه، بأنه يمتلك الجيش الذي لا يُقهر!
إلا أنّ هذا الجيش تعرّض لهزيمة كبرى في حرب الاستنزاف على الجبهتين المصرية والسورية (67 – 1970م)، حتى تم قبول مبادرة روجرز!! فضلاً عن هزيمة كبرى على الجبهتين المصرية والسورية، وانتصار كبير للجيش المصري والسوري، ولولا غياب الإرادة السياسية العربية على استمرار معركة التحرير الشاملة، لكان الكيان الصهيوني قد تعرّض لهزيمة شاملة بدلاً من هزيمة جزئية، رغم الإنجاز الضخم بعبور أكبر مانع مائي هو قناة السويس (الأكبر في التاريخ)، وتحطيم خط بارليف (الأضخم بعد خط ماجينو الفرنسي). وخلاصة ذلك أنّ الجيش الصهيوني قد تعرّض لهزيمتين سابقتين، لكنهما لم تصلا بعد إلى حدّ الهزيمة الشاملة كما أنّ الجيش الصهيوني تعرّض لهزيمة ثالثة في جنوب لبنان عام 2000م، على يد جنود حزب الله، وبمقتضاها تم تحرير الجنوب اللبناني بلا قيد وشرط، واعتبر يوم 25 مايو/ أـيار 2000م، عيداً للنصر والتحرير، مثل 6 أكتوبر 1973م. وكذلك هزيمة رابعة في يوليو 2006م، على يد حزب الله أيضاً، حيث فشل في استعادة الجنوب اللبناني وتحطيم القدرة والإرادة اللبنانية ممثلة في حزب الله، مرة أخرى. وباءت محاولات كلّ الخراب والتدمير في بيروت، من تحقيق أية أهداف. إلا أنّ العدو الصهيوني يستعرض قوة جيشه بلا رادع، في استمرار عدوانه على أراضي سورية وفي العمق، وأحياناً في الجنوب اللبناني، رغم محدودية الخسائر المادية والبشرية!
وقد بنى العدو الصهيوني استراتيجيته العسكرية، للحفاظ على تفوّقه، وأنه الجيش الذي لا يُقهر، على مبادئ أساسية وفرعية. وفي مقدمة هذه المبادئ الرئيسية، ألا يحارب على أكثر من جهة في آن واحد، إلا إذا كان مجبراً على ذلك، كما حدث في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973م، ومنذ تلك اللحظة فإنه تفادى ذلك فعلياً. واكتسب حصانة في ذلك من خلال توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وبعدها وادي عربة، الأمر الذي أدّى إلى تأمين جبهتين هما الجبهة المصرية، والجبهة الأردنية، إلى حدّ أن أصبحت الجبهتان حائط أمان لهذا الكيان، وظهيراً حمائياً له… للأسف!
وأصبحت الجبهتان المتبقيتان هما: الجبهة اللبنانية، الساعية عبر حزب الله إلى استكمال تحرير باقي مناطق لبنان (مزارع شبعا، والنقاط الـ 13 بين لبنان وفلسطين المحتلة، على الحدود). والجبهة الثانية هي: الجبهة السورية في مرتفعات الجولان، فهما مصدر الخطر ومصدر التهديد، للوجود الصهيوني أصلاً، رغم أن جميع المناوشات التي تتم من الكيان الصهيوني، وردود الفعل، تحت السيطرة!! ولذلك كان التطبيع واستراتيجية الكيان الصهيوني، مع دول عربية غير حدودية معها، كما حدث مع مصر والأردن، وهي الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسودان، بالإضافة إلى تواصل غير رسمي مع السعودية، وعُمان، وقطر. وكان التطبيع الرسمي مع السعودية في طريقه إلى العلن، لولا «طوفان الأقصى» الذي أوقف قطار التطبيع، وأصاب الكيان بالصدمة الكبرى!! ولو تحقق ذلك للكيان الصهيوني، لاكتملت دوائر الحماية له، وتأمين نفسه، تمهيداً للانفراد بكل من لبنان وسورية، وإخضاعهما، وإجبارهما على الاستسلام، والدخول في مسيرة التطبيع، والسلام الاستسلامي!
وقد تجاهل العدو الصهيوني، المقاومة الفلسطينية، داخل الأراضي المحتلة، في غزة والضفة الغربية، وتعامل معها على أنها مجرد مناوشات وتحرشات، وهي تحت السيطرة، وتنتهي بتدخلات إقليمية عربية، وبتعليمات أميركية، إلى وقف هذه التحرشات، والدخول في اتفاقات مؤقتة، خاصة خلال السنوات الأربع الأخيرة. ولكن في الوقت نفسه تجاهل الكيان أن غزة، كانت تحررت بالقوة، وأجبر الكيان على الرحيل من 17 سنة، بغير قيد أو شرط، ولكن تم فرض الحصار باتفاقات مع أطراف لا علاقة لها بالفلسطينيين الحقيقيين، ولكن عبر قبول سلطة أوسلو، في الضفة الغربية.
لذلك، فإنه نتيجة هذا التجاهل من الكيان الصهيوني، كانت المفاجأة الاستراتيجية في «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، لتطيح تماماً بالعقل الصهيوني، وإنهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والتي كان الكيان يعيش عليها، بدعاية كاذبة. وكنت دائماً أقول في كتاباتي، أن الكيان الصهيوني في حاجة إلى هزيمة كبرى، ينتهي على إثرها، وإلى الأبد. حيث لم يكن مقتنعاً بالهزائم الصغرى والمحدودة – حسب تقديره – منذ 1976م، وحتى انتصارات حزب الله في عامي 2000، 2006م.
وها هي عملية «طوفان الأقصى»، وقد تسببت في الهزيمة الكاملة والكبرى، للجيش الصهيوني، كما أن لحرب غزة التي تخطت الـ 115 يوماً متصلة، ورغم تعرّضها لإبادة جماعية (Genocide)، إلا أن كل ذلك قاد إلى فتح الساحات المقاومة في جنوب لبنان، وفي الجولان، وفي العراق، وفي اليمن، مرة واحدة وبتصاعد تدريجي بلا توقف، ومن ثم فإن الكيان الصهيوني وجيشه الذي أشيع عنه أنه الجيش الذي لا يُقهر، انتهت أسطورته، ويعيش الهزيمة الكبرى حتى الزوال الحتمي لهذا الكيان قريباً. وللحديث بقية…

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية،
جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى