أخيرة

رثاء حالنا في مقام الحاج علي تقش

د. محمد حسين بزي*

في حومة الموت وزؤام الحياة، في ترهّل الأيام وشيب العمر، وفي تدافع الشهور عند مطلع الربيع من آذار تصوم الأيام، ولا يفطر الوقت، ويتوقف التوقيت في عنق غسق العشق ليشهد العاشر من شهر رمضان فجره الأبهى، عند الساعة الرابعة وست عشرة دقيقة يتوقف قلب العم الحبيب الحاج علي تقش** عن الخفقان، لكن تبدأ روحه بالنبض بعد القبض في عالم الفيض.. في عالم الشروق حيث يرى ما لا يرى، فتفطر روحه عن الوجع، وعن الألم الذي ألمّ به دون أن يمسكه عن ذكر الله وعن مناداة الحسين؛ وكان ذلك لشهر ويزيد…
وبعد أن درج الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن أمره؛ كان فجر الخميس الواقع فيه حزننا، والمرفوعة فيه روحه الطاهرة إلى بارئها، فبان وجهه القدسي في هدايا الربيع الآتي مع نسائم آل محمد.. إنهم الباقون ما بقي الدهر، فما عسى الموت أن يفعل بالموالين لهم..؟!
والله لا أراه إلّا جديلة مشرقية تبشِّر بطلائع الفرسان إذا ما حمّت نيران العشق، واشتعلت أنوار الولاية وهي تلاقي الحاج علي تقش وقد وصل إلى أصل منبته، ومجبل طينته، وسنخية روحه المرفرفةِ فوقنا الآن..
والله لا أرى موته إلّا تعميداً لعمره الممتدّ فوق أعمار الغابرين في الخالدين..
فصباح الجمع والفرد في الأشياء والمواقيت، صباح الخير أيها العم الحبيب، وصباح صلاة الليل والمناجاة الشعبانية التي سقيتها الدموع؛ فسقتك السكينة في محاريب الفجر الصادق في عهده ووعده، حتى غدوت فرعه المشارَ إليه من بيت الله الحرام إلى المسجد النبوي في طيبة، وقد بلغت من النجف عشق الأمير، ومن كربلاء مشكاة من نور الحسين الذي ما برح يضجّ في عروقك كلما شربت زلالاً…
صباح الأيتام والأرامل والأيامى.. الذين كانوا أكبر همومك حتى ترضيهم، ولآخر عمرك.
صباح الأرحام الذين عالجتهم بالصلة والمحبة وجبر الخاطر، ولو كان عليك خصاصة.
صباح الكلام الطيب عند الغضب، وصباح الغضب لله وفي وجه المحتل الصهيوني؛ ولا غير.
صباح التواضع للصغير قبل الكبير، الذي لو وزّعناه على مدينة لأصبحت فاضلة.
صباح المواقف النبيلة، والآراء الحكيمة، والمحبة الحاكمة التي انهمرت من دموع الناس في تشيعيك المهيب.
والآن أيها العم والأب والصديق، دعني أقول:
صباح الحزن (حزنِنا)، صباح الألم والصبر والإيمان والعزم والبصيرة، صباح العمر الذي كدحت فيه إلى ربك لخمس وسبعين سنةً وتزيد.. صباح عاشوراء ومدينتها وذاكرتها ومسرحها وحزنها وسوادها وبيادر تاريخها المجلي في تاريخك، والمتجلي في روحك بين ركن الحسين ومقام محمد حتى آخر سطر من العهد الزينبي..
صباح الصيام الذي دخلت فيه قبل هلال شهر رمضان، لكنك لم تصم عن الطعام وحسب، بل صمت عن كلّ دنيانا.. إلّا عن الوجع والاحتساب..
صباح التعب والكدّ منذ العاشرة من عمرك وأنت في سوق النبطية بين الوالد والمدرسة، وصباح الأدب العربي وجامعة بيروت العربية التي تخرّجت منها بتحفيز أستاذ الأساتذة الدكتور أسعد علي، صباح دار المعلمين التي درت فيها، وفزت منها رياضياً وأستاذاً ومربياً..
صباح مرجعيون والنبطية وعربصليم وجباع والمية ومية وما بينهم من قرى أبى شبابها وأبت شاباتها إلّا التّلمذ على يديك الرحيمتين، حتى أصبحوا ألوفاً وقد ائتلفت قلوبهم على محبتك حتى آخر رمق من عمرك المبارك.
وفي شهر الله الأعظم، سنبقى ننعم في صباحك أيها العم الجميل، وستبقى كلُّ أوقاتنا بذكرك صباحاتٍ لا تنفصم عن أصلها الذي لم يزل بِكراً.
وأختم الكلام لأعتذر عن بلوغ المقام، وأقول:
إنّ كل ما تقدّم لم يكن في رثائك أيها العم الحبيب، بل كان في رثاء حالنا التي تتطلع إلى بلوغ مقامك الرفيع، لكن شفيعي أنني كتبتُه بقلمك الذي أخبرتني أنك كتبتَ فيه لأربعين سنةً؛ وقد أهديتنيه قبيل ارتحالك، فهل وفيت؟ ولا أظنني كذلك، إلّا ببركاتك.

*شاعر وروائي لبناني
**من أعيان مدينة النبطية ووجوهها الثقافية والدينية والاجتماعية وعميد المسرح الحسيني فيها، (ولد سنة 1947 وتوفي بتاريخ 21/3/2024).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى