… لأزمنة الحرب والموت هستيريا «إسرائيليّة» ملطّخة بالدم
جورج كعدي
الموت العميم في غزّة اليوم على يد الوحش «الإسرائيليّ» قاتل الأطفال والمدنيّين، يردّنا إلى أصل هذه العدوانيّة الكامنة لدى الإنسان إنْ صنّفنا بني «إسرائيل» الصهاينة الوحوش ناساً وبشراً لمحاولة فهم العلّة تلك المتأصّلة في البشر عامّة، وفي بعض المجموعات الـ»سايكوباتيّة» المريضة، مثل المجموعة الصهيونيّة المجرمة التي وفدت إلى أرض فلسطين واحتلّتها وصادرتها ونكّلت بأهلها قتلاً وقمعاً وتهجيراً.
ليس أفضل لمسألة كهذه من العودة إلى سيّد علم النفس، تحليلاً ومعالجة، زيغموند فرويد، وبخاصّة في بعض أبحاثه حول الحرب، وفيها بحث عنوانه «أفكار لأزمنة الحرب والموت»، وآخر عنوانه «لماذا الحرب؟» هو في الأصل عنوان إحدى الرسائل المتبادلة بين فرويد وآينشتاين عام 1933. ولأنّ عنوان زاويتنا هذه هو «أفكار متقاطعة»، يمكننا أن نعرّج على علماء نفس ومفكّرين آخرين مثل الرائد الآخر كارل غوستاف يونغ والمفكرة هانّا أرندت لهم أفكارهم وأبحاثهم وتأملاتهم أيضاً حول العنف والعدوانيّة والحروب، في تقاطع مع أفكار فرويد.
يقول فرويد حول أصل الشعور العدوانيّ « … إن اللاشعور لدينا لا ينفّذ فعل القتل إنّما يفكّر فيه راغباً فحسب. لكن من الخطأ التامّ التقليل من أهمية هذا الواقع النفسيّ مقارنة بالواقع الفعلي، فهو مهمّ ومشحون بما فيه الكفاية، فنحن نُبعد يومياً ـ في اللاشعور ـ وفي كلّ ساعة كلّ من يقف في طريقنا، وكلّ من أغضبنا أو أذانا، والعبارة القائلة «ليأخذه الشيطان!» ـ التي كثيراً ما تنطلق من بين شفاهنا في غضب ممازح أو التي تعني حقاً «ليأخذه الموت!» ـ هي في لا شعورنا رغبة موت متعمّدة فائقة الأهميّة. والحقيقة أنّ لاشعورنا يمكن أن يقتل حتّى لأسباب تافهة، فهو مثل قانون دراكو الأثيني القديم لا يعرف عقوبة لجريمة إلاّ الموت، وفي هذا قدر معيّن من التماسك المنطقيّ، لأنّ كل إيذاء لأنانا المعظّمة والأوتوقراطية هو في العمق جريمة ضدّ «الذات الملكيّة». فلو حكم علينا بالرغبات الكامنة في لاشعورنا نكون مثل الإنسان البدائيّ مجرّد عصابة من القتلة … ».
تمنّي الموت للآخر يستعير له فرويد حتى الدعابة قائلاً: « … ثمّة سلسلة كاملة من التلميحات والنكات الساخرة التي تؤكد هذا المعنى نفسه، مثل الإشارة التي تُعزى إلى أحد الأزواج القائل لزوجته: «إذا مات أحدنا فسوف أذهب لأعيش في باريس». وما كان ممكناً أن تكون نكات ساخرة كهذه محتملة ما لم تكن تحتوي على حقيقة غير معترف بها ولا يمكن إقرارها لو عُبّر عنها جدّياً وفي جرأة. ففي النكات ـ كما نعرف ـ حتّى الحقيقة يمكن قولها … ».
يضيف فرويد في موقع آخر من بحثه: « … إنّ لاشعورنا غير قابل لفكرة موتنا، بقدر ما هو ذو عقل إجراميّ حيال الغريب، وبقدر ما هو منقسم أو متناقض وجدانيّاً حيال المحبوب، هو عقل الإنسان البدائيّ في الأزمنة القديمة. لكن ما أبعد المسافة التي اجتزناها بعيداً عن الحالة البدائيّة في موقفنا التقليديّ المتمدّن حيال الموت. ومن السهل أن نفهم تأثير فعل الحرب في هذه الثنائيّة. إنّها تنزع منّا آخر إضافات المدنيّة وتطرح في العراء الإنسان الأوّل في كلّ منا. إنها ترغمنا مرّة أخرى على أن نكون أبطالاً لا يستطيعون الاعتقاد بموتهم. إنّها تدمغ الغريب بأنّه العدوّ الذي ينبغي قتله أو امتلاك الرغبة في قتله، وتنصحنا بالارتفاع فوق موت أولئك الذين نحبّ. والحرب لا تزال قائمة، طالما أن الأحوال بين الأمم على هذه الدرجة من الاختلاف، وطالما أنّ مشاعر الكراهية بين الشعوب على هذه الدرجة من الحدّة … ».
يرى فرويد كذلك أنّه «عندما تُحرّض الكائنات البشرية على الحرب يكون لديهم عدد كبير من الدوافع للتصديق عليها، بعضها نبيل وبعضها وضيع، بعضها يتحدّثون عنه صراحة وبعضها الآخر يلتزمون الصمت في شأنه. ولا حاجة بنا إلى تعدادها كلّها. لكن المؤكد أنّ شهوة العدوان والتدمير هي بينها، والبشاعات التي لا تُحصى في التاريخ وفي حياتنا اليوميّة تشهد على وجودها وقوّتها. إنّ قوة جاذبية هذه الدوافع التدميرية يسهّلها امتزاجها بدوافع أخرى من النوع الشبقيّ والمثاليّ. وحين نقرأ عن المذابح الجماعيّة التي كانت تُرتكب ماضياً يبدو أحياناً أن الدوافع المثاليّة كانت مجرّد ذريعة للشهوات التدميريّة، وأحياناً ـ كما في الفظائع التي ارتكبت في محاكم التفتيش ـ تبدو الدوافع المثاليّة كأنّها تقدّمت شعوراً، فيما اكتسبت الدوافع التدميرية تعزيزاً لاشعوريّاً».
أمّا كارل غوستاف يونغ فيقول في كتابه «النازيّة في ضوء علم النفس»: « … رأيت من الخير أن أفسّر «الاستعداد الهستيريّ» بأنّه يشكّل فرعاً ممّا يسمّى بـ»النقائص السيكوباتيطيقية». لا ينطوي هذا الاصطلاح على أنّ الفرد أو الشعب هما «ناقصان» من كل جانب، بل ثمّة مكان تكون فيه المقاومة في حدّها الأدنى، وهو حال من القلق الخاص في معزل عن جميع الصفات الأخرى. معنى الاستعداد الهستيريّ أن الأضداد المتأصّلة في كل نفس، خاصة الأضداد التي تؤثّر في الشخصية، بعضها منفصل عن بعضها الآخر أكثر من انفصالها في الناس العاديين … ».
يؤكد يونغ على أن الهستيريا كمرض نفسيّ يمكن أن تصيب أمماً مثل الأفراد، أي يمكن التحدث عن «أمّة هستيريّة»، وإن كان صبّ بحثه على هستيريا الأمّة الألمانية زمن النازية، يسعنا على هدي هذا البحث وضع صهاينة «إسرائيل» مكان النازيّين فلا يتبدّل شيء علميّاً وموضوعيّاً، لأن «الإسرائيليّين» مصابون جميعاً بهستيريا، ولنا أن نراقب فحسب حجم إجرامهم وذعرهم وتخبّطهم لنبصر هذا التصرّف الهستيريّ المرضيّ. يقول يونغ: « … حين أقول إنّ الألمان مرضى نفسيّاً فهذا الوصف أخفّ من القول إنّهم قوم مجرمون. لا رغبة لديّ في استثارة حساسية الإنسان المصاب بالهستيريا، فتلك حساسية سيّئة السمعة على ما نعلم … لا يتأتّى لنا شفاء الهستيريا بطمس الحقيقة. لا فرق في ذلك أن يكون المصاب بها فرداً أو أمّة. ليس أشدّ الناس جنوناً هو الجنون المطبق، إذ يظلّ عدد كبير من وظائفه يعمل بصورة طبيعية، بل قد يكون هو نفسه أقرب إلى السلامة العقليّة أحياناً. وهذا أكثر ما ينطبق على حالة الهستيريا التي لا خطأ فيها سوى مبالغات وإفراطات من ناحية، وضعف أو شكل موقّت يصيب الوظائف الطبيعيّة من ناحية ثانية. المهستر، رغم مرضه النفسي، قريب جداً من الحالة السويّة تماماً، رغم أن مجمل الصورة لا يمكن إلاّ وصفها بالهسترة. لا شك في أن للألمان سيكولوجيّتهم الخاصة التي تميّزهم عن جيرانهم، رغم الصفات الكثيرة التي يشتركون فيها مع سائر أبناء البشر. ألم يقدّموا إلى العالم دليلاً على أنهم يعتبرون أنفسهم «العرق المتفوّق» وأنّ لهم الحق في عدم التقيّد بأيّ مبدأ أخلاقيّ إنسانيّ؟ وصموا الأمم الأخرى بالانحطاط وفعلوا كلّ ما في وسعهم للقضاء عليها … ، الظاهرة التي شهدناها في ألمانيا لم تكن سوى انفجار أوّل للجنون الوبائيّ، انفجار للاوعي الخافية في عالم بدا لنا محكم التنظيم. إنّ أمّة بأسرها، وملايين لا تحصى تنتمي إلى أمم أخرى، اجتاحها جنون ملطّخ بالدم، جنون حرب إبادة. لا أحد كان يعلم ما يحدث له، وكان الألمان أقلّ الناس علماً وسمحوا بأن يُساقوا إلى مسلخ الذبح مثل أغنام منوّمة على أيدي قادة مصابين بلوثة في عقولهم. ولعلّ الألمان كان مقدّراً لهم أن يبلغوا هذا المصير، إذ لم يُظهروا سوى مقاومة ضعيفة للعدوى العقليّة التي كانت تهدّد كل أوروبيّ … ».
إلى منتقيات سريعة من نظرة هانّا ارندت المفكّرة اليهوديّة للمناسبة إلى عنف الدول وعدوانيّتها: « … رغم أن فاعليّة العنف لا تعتمد على العدد إذ في إمكان رام واحد يحمل رشّاشاً أن يُخضع مئات الناس المنظّمين، فمن المؤكد أن السمات الأكثر خطورة وجاذبيّة للعنف تتبدّى على نحو أوضح لدى اللجوء إلى العنف الجماعيّ، بغضّ النظر عن الأمان الذي يوفّره الانخراط في الجماعة. صحيح تماماً أن الفردية هي القيمة الأولى التي تختفي لدى اندلاع العمليّات العسكرية أو العمليّات الثوريّة، ويطالعنا مكانها نوع من التلاحم الجماعيّ الذي يتكثّف الإحساس به، ويظهر أقوى كثيراً ـ رغم قصر عمره ـ من أشكال الصداقة المدنيّة أو الحميمة كافة … أمّا العنف والسلطة فليسا في أيّ حال ظاهرتين طبيعيتين، أي ليستا تجلّياً لمسيرة الحياة، بل ينتميان إلى ملكوت السياسة المهيمنة على قضايا البشر … ».
للأفكار والتأمّلات والأبحاث حول العدوانيّة المتاصلة في البشر والحرب والموت صلة، ومناسبات آتية لتناولها والعودة إليها.