رفيق الحريري «السوري»
روزانا رمّال
الحرب الأهلية التي عاشها لبنان فرضت فكرة تقبّل اللبناني تواجد الأجنبي على أرضه وعلى طاولته السياسية، وإن كانت طاولة مجلس الوزراء التي شكّلت مصغراً عن قوى إقليمية حاضرة بشخصيات لبنانية، فالحضور السوري في لبنان بعدها عسكرياً وأمنياً كان واضحاً، والحضور السعودي السياسي المستحدث كذلك، وهو الدور نفسه الذي كانت تطمح السعودية للدخول إليه في سورية وبالطريقة نفسها التي تسمح لها بتنحية الرئيس السوري بشار الأسد أن تحضر بنفوذ سياسي وازن وزارياً أو نيابياً.
الدور السعودي المستحدث في لبنان نجح بما أسند للرئيس الراحل رفيق الحريري حينها، حيث كان الأكثر حضوراً في تلك الحقبة، وفي هذا الإطار يتحدّث لـ«البناء» مصدر عايش دور الحريري الذي يتعدّى فكرة أن يكون قد نفذ مخططاً سعودياً جاهزاً محضراً، فيقول: «إنّ دور الحريري وصل لدرجة اعتباره «بذكاء ما» أنه هو مَن استطاع إدخال النفوذ السعودي إلى البلاد، في وقت لم تكن قادرة السعودية على ذلك بالطريقة التي كانت تصبو إليها. وهذا الحديث يعود إلى سياسة جدية قدّمها الحريري للقيادة السعودية في مجالين أولهما: في طرحه مخططاً يدخل المملكة بنفوذ سياسي إلى أوروبا عبر فرنسا تحديداً، فكان دعم شيراك في الانتخابات فكرة الحريري، وهو صديق الحريري، والثاني: الدخول السعودي للبنان من بوابة الإعمار والإنماء الضروري بعد الحرب فكان أن أصبح الحريري جزءاً أساسياً من مرحلة الإعمار في البلاد.
حظي رفيق الحريري باحترام الأسرة السعودية الحاكمة وثقتها ومنح الجنسية السعودية في العام 1978، وفي مطلع الثمانينيات أصبح واحداً من بين أغنى مئة رجل في العالم، لكنه عمل أيضاً في تلك المرحلة كمبعوث شخصي لملك السعودية فهد بن عبد العزيز آل سعود في لبنان، فكان له دور هامّ بصياغة اتفاق الطائف ووضع الحيثية السعودية فيه.
تعيش سورية اليوم جزءاً مشابهاً للواقع الذي عايشه لبنان في مراحل الإعداد للحلول السياسية التي دامت سنوات طويلة مترافقة مع نيران مشتعلة من الجبهات والمحاور كافة، وجنيف اليوم شاهد على مثل هذا الواقع الذي يبدو فيه شكل أو هوية «المفاوض» الأمر الأكثر تعقيداً، فالمعارضة السورية غير قادرة على التوحّد ضمن إطار تنظيمي قادر على إرساء حالة وازنة توقع على اتفاق سلمي يوازي دقة المرحلة في وجه النظام الذي يبدو كتلة ديبلوماسية متماسكة ومتوازنة.
الدور السوري في لبنان بعد الحرب واحد من الأدوار التي أنتجتها الحرب بكلّ مفاعيلها، لكن هذا الدور لم يكن وحده بحضور النفوذ السياسي السعودي المتمثل بالحريري حينها، لكن هذا الأخير شهد على مخاض ولادة الطائف وصاغ الاتفاق الذي تحتاج القوى المتخاصمة في سورية لشبيه له «كإخراج» من أجل الانتقال للوضع السلمي.
تسمح مكانة روسيا العسكرية ومصالحها المتشابكة مع النظام السوري ورؤيتها للحلّ وحرصها اللافت على هويات المشاركين وتصنيفاتهم باتجاهها نحو خلق مفاوض سوري قادر على دخول اللعبة السياسية السورية على شكل دور روسي «غير مباشر» بعد دخولها اللعبة العسكرية «مباشرة».
تجربة رفيق الحريري في هذا الإطار لم تقتصر في ما بعد على ما نتج من دخول له في العملية السياسية بالبلاد وتأسيس تيار جديد أو رؤية استطاعت خرق الأحزاب التي عايشت بأغلبها الحرب، بل كان له دور أساسي في صياغة الحلّ ومندرجاته، أيّ أنه أحد أبرز المفاوضين الذين تبحث روسيا عن مشابه له أيضاً بعدما اتخذت من منبر الوسطية موقفاً على طاولة المفاوضات استقطبت على أساسها وفوداً معارضة عديدة.
تتحدّث معلومات دبلوماسية مطلعة على العملية السياسية في جنيف عن نيات روسية في طرح الوزير السوري السابق قدري جميل كرئيس للائتلاف الذي ترغب روسيا في رفعه كمفاوض أساسي، هذا الأمر تؤكده صحف أميركية مراقبة، ما يؤكد أنّ المشكلة الأساسية عند الروس هي غياب المفاوض القادر على إحداث فارق في المحادثات ومقبولية بشكل أو بآخر، وممكن جداً أن يلعب جميل هذا الدور، وهو الذي كان قد استقال من منصبه إثر حديث عن خلاف مع النظام بتبرير رسمي كان «غيابه عن مقرّ عمله دون إذن مسبق وعدم متابعته لواجباته المكلف بها كنائب اقتصادي في ظلّ الظروف التي تعاني منها البلاد، بالإضافة لقيامه بنشاطات خارج الوطن دون التنسيق مع الحكومة وتجاوزه العمل المؤسساتي والهيكلية العامة للدولة». وكان ذلك بعد خروج جميل من سورية وذهابه إلى روسيا لخوض مفاوضات من شأنها تسريع الحلّ السياسي في سورية.
هذه العلاقة بين جميل والنظام السوري ليست مرفوضة من قبل الأخير، فهو يبحث عن المعارضة المعتدلة القادرة على الاشتراك معه في الحكم، وهو الأمر نفسه الذي تبحث عنه روسيا بطبيعة الحال والذي يشكل أكبر العقد الدبلوماسية حتى اللحظة.
جميل الذي يعتبر رجل أعمال نافذاً، وصاحب العلاقة الجيدة جداً مع روسيا، قادر أيضاً أن يخوض المرحلة المقبلة بزخم إنمائي مقبول، فالتحرّر الذي من المتوقع أن تشهده سورية ينسحب على النظام الاقتصادي والإنمائي، ومن المرجح أن تكون عملية الإعمار الأضخم منذ عقود في المنطقة، ما يستوجب تسليط الضوء على شخصية قادرة على لعب دور فعّال خلال المفاوضات، فلا يمكن «إنزال» أو فرض شخصية بعد إنجاز الحلول، بما يشبه ابتكار دور غير مقنع للمجتمع السوري، هذا ما عاشه رفيق الحريري فهل تعيشه سورية ويكون قدري جميل هو رفيق الحريري السوري؟ أم أنّ المفاوضات ستكشف اسماً آخر بهذه المواصفات؟