«داعش» وقصائدنا… فنون الظلم في «السلفية الشعرية»
توفيق شومان
من مأثورات الفيلسوف الإغريقي سقراط قوله: «تبدأ الحكمة حين يبدأ الإنسان بالسؤال عن صحّة موروثه وعن الحقائق المقرّرة». وحين كان الفيلسوف الصينيّ منشيوس يُسأل عن مراجعة أفكاره وتعديلها كان يقول: «كان ذلك مرّة… والآن مرّة أخرى». أما الصينيّ الآخر الفيلسوف كونفوشيوس فكان يردّد: «لا يمكن أن يتبع الناس إلى الأبد نجماً واحداً أشار إليه رجل آخر».
بهذا المعنى، أدرك فلاسفة اليونان والصين خطورة البقاء على التقليد، فما كان بالأمس هو ابن الأمس. وهو ما يناقض العقل العربي الذي يشكّل الشعر مكوّنه الأساس، وهذا ما يراه أدونيس حين يقول إن الشعر هو التراث الأعظم والأكثر تعبيراً عن الشخصية العربية. وبهذا المنحى يذهب إبن خلدون 1332 ـ 1406 م في «المقدمة» قائلاً: «إن فنّ الشعر كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم». ويشرح ابن صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم» علاقة العرب بالفلسفة فيقول: «أما علم الفلسفة، فلم يمنحهم الله منه شيئاً، ولا هيّأ طباعهم للعناية به».
في كتابه «الثابت والمتحوّل»، يتحدّث أدونيس عن اتباعية العقل العربي في الخلافة والسياسة، والسنّة والفقه، والشعر والنقد. أما الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي فيقول: «كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعاً على غرار واحد، ومصطبغاً بصبغة واحدة». ولا يبتعد أمين الريحاني عمّا سبق ذكره، إذ يرى أنّ «الشعر العربي لم يعد في مجمله غير أصداء لأصوات الشعراء الماضية وأشباح لألوانه وأشكاله».
ضمن هذا السياق، يمكن الاستعانة بإحدى القواعد الفقهية القائلة «إن ما أقفله السلف لا يفتحه الخلف»، وإسقاطه على مدارات القصيدة السلفية العربية، حيث يتموضع الظلم كمفهوم راسخ في قصائد «السلف الصالح»، بحيث يتبدّى الظلم عقيدة متوارثة في العقل العربي. وفي ذلك قال الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم :
لنا الدنيا وما أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاة ظالمين وما ُظلمنا
لكنّا سنبدأ ظالمينا
وعلى خطى عمرو بن كلثوم يقول زهير بن أبي سلمى:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يُهدم ومن لا يَظلم الناسَ يُظلَم
تلك الدعوات الصريحة التي تربط أسباب العيش بممارسة الظلم، لا تتيح لشريعة التسامح منفذاً أو سبيلاً، ولذلك ينشد عنترة العبسي:
فإذا ظلمتُ فإن ظلمي باسل
مرّ مذاقته كطعم العلقم
وبما أن الظلم مفتوح على المطلق، فإنه لا يستثني الأقربين. فالظلم في هذه الحال حيّ وحيد ومتفرّد ومنفرد. ولعل لوعة الشاعر طرفة بن العبد المتمثلة في شكواه من سلطة الظلم القرابية، توجز ذلك في واحد من أشهر أبيات الشعر العربية الممتدة من العصر الجاهلي إلى اليوم، بقوله:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنّد
وبحسب جرجي زيدان في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية»، فقد حافظ الأمويون على مقتضيات البدواة. وهو أمر يراه أيضاً عمر فروخ في كتابه «تاريخ الأدب العربي» إذ يقول:«إن البداوة ظلت غالبة على الشعر الأموي». ولا يخرج أبو القاسم الشابي عن المقولة ذاتها فيؤكد أنّ «آداب العصر الأموي ظلّت شبيهة بآداب العصر الجاهليّ».
يقول أبو الهلال العسكري في كتاب «ديوان المعاني» إن أجود ما قيل في الرجل الحازم الظالم ما قالته زينب بنت الطثرية :
إذا جدّ عند الجدّ أرضاك جدّه
وذو باطل إذ شئت ألهاك باطله
يسرّك مظلوماً ويرضيك ظالماً
وكلّ الذي حملته فهو حامله
إلا أنّ الأخطل، أحد أضلاع مثلث الشعر الأموي، تصل به عقيدة الظلم إلى ذروة السخرية في ذمّ قبيلة «زيد اللات»، لكونها من ذوات الشوكة الضعيفة واليد المغلولة. فيذمّها باطناً ويمدحهاً ظاهراً فيقول :
قبيلة ما يغدرون بذمّة
ولا يظلمون الناس مثقال درهم
ومن مشهورات الأخطل مدحه استبداد يزيد بن معاوية في قصيدة مطلعها :
صحا القلب إلا من ظعائن فاتني
بهن أمير مستبدّ فأصعدا
وقريب من قول الأخطل، يمدح الفرزدق، الحجاج بن يوسف، مفاخراً بأن الحوامل يجهضن ما في بطونهن، لو أزبد الحجاج وأوعد وهدّد. يقول الفرزدق :
إذ وعد الحجاج، أو، همّ، أسقطت
مخافته ما في بطون الحوامل
وفي قصيدة أخرى يقول: تعلم إنما الحجاج سيف
تجذ به الجماجم والرقابا
في «السلفية الشعرية» يمتد مديح الظلم العالي إلى الحبّ والغزل. وفي ذلك ينقل أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» عن الخليفة العباسي هارون الرشيد، سؤاله عن أحسن بيت شعر لعاشق ظالم متعتّب على حبيبه المظلوم. فيقال له قصيدة لجميل بثينة، وفيها:
ومن لذّة الدنيا وإن كنت ظالماً
عناقك مظلوماً وأنت تعاتبه
وعلى ما يروي الأصفهاني، أنّ هارون الرشيد طلب من الراوي إعادة القصيدة حتى حفظها .
وحين انتهى هارون الرشيد من الاستماع لقصيدة مغنّاة لعمر بن أبي ربيعة يقول فيها:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدّت مرّة واحدة
إنما العاجز من لا يستبدّ
قال هارون الرشيد: فعلاً، إنما العاجز من لا يستبدّ.
في العصر العباسي، استقرت عقيدة الظلم في السلفية الشعرية، كما في سلفيه الأموي والجاهلي، وفي ذاك يقول ابن ميادة :
لو أنّ جميع الناس كانوا بتلعة
وجئت بجدّي ظالم وابن ظالم
لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا
سجوداً على أقدامنا بالجماجم
ولئن كانت عقيدة الظلم تعني في أحد وجوهها إسقاط الفعل من الأقوى على الأضعف، فهي في وجهها الآخر تعني قابلية الضعيف لتلقي الفعل من الأقوى، وفي ذلك يقول أبو فراس الحمداني:
وبعض الظالمين وإن تناهى
شهيّ الظلم مغتفر الذنوب
وفي إحدى رسائله لسيف الدولة يقول:
وعاملني بإنصاف وظلم
تجدني في الجميع كما تحبّ
ربما لم يبلغ تأصيل «السلفية الشعرية» لعقيدة الظلم، مبلغ ما قاله «عظيم الشعراء العرب»، أبا الطيب المتنبي، حين يقول:
والظلم من شيم النفوس وإن
تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
ويعلّق على ذلك بطرس البستاني في كتابه «أدباء العرب في الأعصر العباسية» قائلاً: «وهذا قول من يرى أن الشرّ كامن في النفس البشرية». ويختصر ابن الرومي ذلك بقوله:
والشر بين الناس مشترك
والخير فيهم غير مشترك
يكمل الشاعر العراقي الحديث كاظم الدجيلي ما كان سبقه إليه ابن الرومي قبل ألف سنة، فيقول:
تجنّب الشرّ لا خوفاً ولا طمعاً
والشر في النفس قبل الخير قد طبعا
فيما أحمد شوقي يزيّن ظلم الفراعنة حين ينظم شعراً للهرم فيقول:
هو من بناء الظلم إلا أنه
يبيّض وجه الظلم منه ويشرق
في كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» يقول الناقد إحسان عباس إن كثيرين من الشعراء العرب المعاصرين أصابتهم الحيرة حيال الموقف من التراث. ومنهم سميح القاسم حين يقول:
دم أسلافي القدامى لم يزل يقطر منّي
وصهيل الخيل ما زال وتقريع السيوف
فيما توفيق زياد يقول:
إن كسر الردى ظهري
وضعت له صوانة من صخر حطين
أما عبد الوهاب البياتي فلا يرى في المدينة التي هي نقيض البداوة سوى ما يقوله: ملعونة تعجّ بالذباب والأصغار والحريم
تفتح للغزاة ساقيها وللطغاة
إذاً، هو الماضي المقيم في الحاضر، حيث لا تغيّر ولا تبديل إلا بما قلّ وانحصر، وفي ذلك يقول الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
ونحن كما غنّى الأوائل لم نزل
نغنّي بأرماح وبيض وأدر.
ومع ذلك يسألونك عن «داعش»!
كاتب لبناني