متوالية «حاموت»… تعرية للواقع بغير زمان ومكان!
النمسا ـ طلال مرتضى
الدخول إلى عوالم وفاء عبد الرزاق ليس اعتباطاً. يحتاج الأمر إلى مماحكة حثيثة والكثير من التأنّي والأناة. فالنقد العظيم له سلطته الخاصة بإطلاق أحكامه حسبما ترتأي الحالة المراد معالجتها نقدياً من دون التعثّر من خلال مقارباته والحوامل التي تشي بتأصيل هذا الحكم. لكن في ما أنا به أزعم أن النقد سيدلي عن حكم منقوص الدوالّ لغياب حلقة ما ـ حلقة عبور ـ اجترعتها عبد الرزاق لتربك الناقد أولاً، وفي هذا يكون الحكم النقدي موتوراً غير متوازن، ظلّ ضياع مفتاح ما!
لعلّ أحداً ما ينظر إليّ بشرر، فالنقد قادر على إثبات ذاته وإسقاط مقارباته كيفما أتت ومتى جاءت الحالة الإبداعية. وهنا لا أنفي، لا بل ومن باب التجربة، وبالعودة إلى معطى عبد الرزاق الذي يقترب تشبيهاً بلعبة المتواليات، بعد تركها خيطاً رفيعاً يربط بين كل منجز، يتصل بسلطة تواتر الأفكار مع منجز آخر، كما الحال في «رقصة الجديلة والنهر» ثم «أشكّ حتّى» إلى «حاموت» وبالعكس تماماً. وهنا أقول إن قارئ هذه المنجزات الثلاثة لا بدّ أن يستشعر بالجسور الممتدة بين هذا العمل وذاك، وتلمسها من خلال وعي استرجاعي مبطن دلالي، لا يسلم نفسه طوعاً إلا لقارئ عليم.
في روايتها «حاموت» الصادرة عن «دار العارف» البيروتية، تذهب بنا الراوية إلى مواطن نجهل مداهيلها بغير زمان ومكان وشخصيات وحدها من يملك حرية تحريرها من علائقها واستنطاقها والتحكم التام بمعطى طاقاتها الكامنة التي تسجلها أحداث المروية بحبكة متينة منتقاة، مخفّفة بآلية سردية ثرية يكاد القارئ في بعض المفاصل يتلمسها بواقعه المحسوس لكثرة إسقاطاتها وترافد صورها الدلالية التي تنفتح في مخيلته بحامل الأسئلة التي تجعل منه شريكا حقيقياً، لا عابر قراءة يلتزم الحياد حين يشتدّ عصف المواجهات واحتدامها. بدءاً من «حاموت» المكان السؤال المبهم، وهي فيما وصلنا بسلطة القراءة المدينة المتخيل، إذاً هي مكان، والمكان وجود، لكن أين؟!
استشفافاً هي مدينة اللعنة، تعريفاً قالت الكاتبة: حاموت مدينة الظلام والكابوس كأنها غيمة سوداء تحاصر أبناءها وتصهرهم الواحد تلو الآخر، ما هي إلا صدى أسلحة، شكوى مؤلمة.
في مقاربة الحكاية، نجد أن سامي البدري في مرويته «موت بلون آخر» تحدّث عن بغداد بكل صفات «حاموت». لكنني كمتلقي بقيت متهادناً مع روحي كوني أمشي على أرض أعرفها. لكن الأمر في «حاموت» مختلف كلياً. فأنا أعيش أحداث مدينة ترتدي لبوساً غرائبياً، لكنها موجودة في داخلي، ولست الآن خارجها، لا بل وبحسب الراوية: أنت تعيش على شبر من أرض حاموت.
أوليس هذا افتتان مفتعل، كيف، ولماذا، وأين. إذاً لست أنا وأنت في منأى عن لعنتها، لأنها ـ حيث أنا ـ كرة الأرض، الحاضرة الآن وفي الأمس ولم تزل متطلعة إلى احتواء الغد. وهنا تثبت أحداثها أنها تعيش كل الأزمنة منذ آدم الأول وقايين وهابيل، من خلال شخصيات مركبة تتماهى بين الواقع الفعلي والخيال، نعيشها في حالتَي الوعي واللاوعي، بما أنها تماثل شخصيات أخرى في مرويات أخرى تعمل عملها وتكيل كيلها كبطل مقصلة الحالم «خالد» والذئب الافتراضي «سرحان»، كذلك «أبو شندي» في مروية «باب الليل» لوحيد الطويلة، هذه الشخصيات هي أنّا نذهب إلى المقهى ونعمل لأجل الحصول على مقابل يمدّنا للاستمرار في يوم آخر، لكنها في الوقت ذاته ـ أي شخصيات «حاموت» ـ ليست ألا حالة هلامية تتخاطرها ذاكرتنا عبر إسقاطات تماثلية مع مثلها في الواقع، فهذا الشبح أو المحجوب «عزيز» الذي لا يتوقف عن افتعال الموت أينما يحل، لا يضاهية في التشبيه سوى ملك الموت عزرائيل، فهو الخاضع لسيده «جليل» بل هو ذليله، بمعنى أن الكاتبة استطاعت أن تنجو بشبح لا يشابه بالمطلق أياً من المردة والأشباح الأخرى التي قرأنا عنها في المرويات وقصص ألف ليلة وليلة. وحده »«عزيز» بلمحة بصر ينهي مسألة في غير بلاد، إذاً «حاموت» ـ الأرض ـ هي أشبه بكرة بين يديه، وهنا لا بدّ من العودة إلى «رقصة الجديلة والنهر» مرويّتها السابقة، حيث نستذكر الشبح الهلامي الذي يوزّع سنابل النور على بيوتات سنجار وكوباني وغيرها، ليمدّها بسلطة أمل وهي بصمات «ريحانة» الذبيحة، بينما بصمات «عزيز» كانت إشارات لموت لا مناص منه، لا رغبة منه لبثّ الحزن إنما قناعته تقول: «استبد الناس في حاموت وعاثوا في نفوسهم قبل العبث بالآخرين، وظلوا ناقصين يحتاجون شخصاً ينحنون إليه، ينحنون إلى طغيانه إجلالاً».
تلك هي اللعنة الحاموتية التي أطرتنا بها الكاتبة بعدما عجزت الخروج منها، عندما أشارت في ديوانها «أشكّ حتّى» إلى أنّ أصل المشكلة بتلك الشجرة التي قطعت ليصنع كرسي الطاغية المستبد، هي ذاتها في «حاموت»، فقد صارت بحسب ذكرها:
الأشجار حية… تموت هي الأخرى بين مناشير الحطابين لتصبح وقوداً للتدفئة. أو كراس لزعماء راهنوا أيضاً على ديمومتهم بقتل كل من يعارض ملكوتهم.
عبر هذا المعمار المسبوك بحرفية شاغله الذي ماهى الواقع مع المتخيل من دون التنشيز في الدفق السردي الذي مرّر عبره بسلاسة حالات خبرية لم تفقد السرد متعته أو أن هذه الأخبار بدت حالة نافرة مثل: والأخبار تعلن عن سقوط صنم وارتقاء أصنام أخرى لكرسي العهد الجديد، والشاب الذي أحرق نفسه بعد وسوسة أحد أتباع «عزيز» بأن الجوع كافر ولا بدّ من حرق هذا الكافر في بدنك.