سمير يزبك إلى مثواه الأخير في رمحالا… الطمأنينة تسكّن آلام الموجوع!
ودّعت بلدة رمحالا والجبل ولبنان الفنان سمير يزبك، بحضور رسميّ وفنّي وشعبيّ حاشد، حيث رفعت اللافتات في مناطق عاليه كافة. ونُظّم للجثمان استقبال من قبل أهالي منطقة غرب عاليه عند دوّار قبرشمون.
وأقيم قدّاس وجنّاز لراحة نفس الفنان يزبك في قاعة كنيسة مار ميخائيل رمحالا ترأسه راعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس مطر ممثلاً الكاردينال بشارة بطرس الراعي، بحضور محافظ جبل لبنان المهندس فؤاد فليفل ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس مجلس الوزراء تمام سلام، وزير التربية والتعليم العالي الياس بو صعب، النائب فادي الهبر، المهندس سيزار أبي خليل ممثلاً العماد ميشال عون، ميشال معيكي ممثلاً وزير الثقافة روني عريجي، خالد سعود على رأس وفد من الحزب الديمقراطي اللبناني ممثلاً النائب طلال أرسلان، العميد آلبير حبار ممثّلاً قائد الجيش العماد جان قهوجي، العقيد حنا اللحام ممثّلاً مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص، زهير تمراز ممثّلاً مدير عام الدفاع المدني، رئيس اتحاد بلديات الغرب الأعلى والشحار رئيس بلدية رمحالا المحامي ميشال سعد، رؤساء بلديات ومخاتير المنطقة وعدد كبير من الفنانين والمطربين الذين أدّى بعضهم أغاني الراحل سمير يزبك، إضافة إلى عائلة الفقيد ومشايخ من المنطقة وحشد من الأهالي والمواطنين من مختلف المناطق اللبنانية.
بعد تقبّل عائلة الفقيد العزاء في صالون الكنيسة، أقيمت مراسم الجنّاز والدفن حيث تليت البركة الرسولية. وجاء فيها: تلقينا، ونحن في زيارة كنسية لمدينة روما، نبأ انتقال فقيدكم الغالي، الفنان الكبير سمير يزبك، عن سبع وسبعين سنة زخرت بالإيمان العميق والعطاء في حقل الفنّ الرفيع، فشقّ علينا الخبر، ونحن نشاطركم الأسى على فقده، والصلاة لراحة نفسه، سائلين الله أن يسكب على قلوبكم تعزياته الأبوية.
كان للمرحومة والدته ذات الصوت الرخيم، الفضل في اكتشاف صوته الجميل وتشجيعه على تنمية موهبته الموسيقية. فدخل المعهد الوطني للموسيقى الكونسرفتوار، حيث تعلّم العزف على آلة العود، وصقل الصوت وأصول التلحين والتأليف الموسيقي. وفي الوقت ذاته كان يعمل في أحد صالونات التزيين حيث أتت يوماً السيدة فيروز، وبينما كان يسرّح شعرها قال لها أودّ أن أسمعك صوتاً جميلاً، وأسمعها صوته فأعجبت به جداً وقدّمته إلى الرحابنة الذين ضمّوه إلى الكورال الذي كان يرافق السيدة فيروز، ثم ما لبث أن أعطي أدواراً في بعض مسرحيات الرحابنة، فبدأ مسيرته الفنية وهو في السادسة عشرة من عمره. وكان في ما بعد يفتخر بهذه المرحلة، ويقول عنها قد أفادتني جداً وأثقلتني صوتاً وموسيقى.
وبعد مدة تعرّف إلى الملحن روميو لحود وتعاون معه لسنوات عدّة، وأصبح بطل مسرحياته في مهرجانات بعلبك، والأرز، وبيت الدين، وإهدن، وبيروت وغيرها. وتعامل مع كبار الفنانين من أمثال السيدة فيروز وصباح، وغنى مع الفنان الكبير وديع الصافي، ومع نصري شمس الدين، وجوزف عازار وعصام رجي وغيرهم، وصاغ لنفسه درباً موسيقياً خاصاً حيث اشتهر بالمواويل وأبو الزلف، والعتابا، والأغنيات الوطنية، ومنها «يا مصوّر صوّر لبنان»، وتجمع لديه حوالى ستين أغنية مشهورة وأكثر من مئة موال، وفي طليعتها ذاك الموال الذي كتبه له الوزير جوزف الهاشم عندما ابتدأ يلازمه الألم، وهو بعنوان «موجوع»، الذي ما زال يحتلّ المراكز الأولى في كلّ الإذاعات، وتقديراً لموهبته وعطاءاته الفنية، قد تم تكريمه في لبنان عدّة مرات، ونال عدداً من الأوسمة من وزارتَي الثقافة والتربية الوطنية. كما أقيمت له احتفالات تكريم في سورية والأردن والعراق والإمارات العربية المتحدة وإيران.
اقترن في سرّ الزواج بشريكة حياته الفاضلة السيدة حنان نصار، وعاشا معاً حياة زوجية رضية، وتعاونا على تربية ابنهما وابنتهما تربية وطنية صالحة، ووفّرا لهما ثقافة عالية فتحت أمامهما أبواب النجاح في المجتمع. وأحبّ ضيعته ومسرح طفولته رمحالا، وغنّى لها وتغنّى بها، وكان نجم مهرجاناتها، ومن مؤسّسي ناديها المعروف. كما أحبّ بلدة الناعمة التي له فيها أقارب وذكريات.
وكان المرحوم سمير يتمتع بثقافة موسيقية واسعة، فكان عازف عود ماهراً، وملحناً، ومؤلّفاً موسيقياً، ومدرّباً، وأستاذاً تتلمذ على يده عدد من الفنانين المعروفين. وقد تميّز في الوسط الفني بأخلاقه العالية ومحبّته للجميع، وتعاليه عن الصغائر، وتقبّله النقد والإساءات بكبر نفس ومسامحة.
إلى ذلك، فقد تألم كثيراً في حياته، إذ لازمته الأمراض والأوجاع منذ أكثر من ثلاثين سنة، فألفها وأصبحت جزءاً من حياته، وامتنع عن السفر وعن إقامة الحفلات أثناء الحرب وبعدها، وبقي ملازماً بيته، متقبّلاً تلك الأوجاع بإيمان وصبر جميل، وكان مواله الشهير «موجوع» أصدق تعبير عمّا كان يعانيه.
وفي سنواته الأربع الأخيرة اشتدّ عليه المرض وأصابه في أعزّ وأثمن ما لديه… أوتاره الصوتية، التي اضطر الأطباء إلى استئصالها بعملية جراحية فأخذ يصارع المرض بعزيمة لا تلين، وبإيمان لا يفتر، والبسمة لا تفارق ثغره.
بعد القدّاس والجنّاز، ألقى رئيس البلدية ميشال سعد كلمة البلدة فقال: رمحالا في حداد، على صنوبرها الأخضر بشارات سوداء وفي ينابيعها والعيون دموع وحنين. وفي جنائنها الغنّاء غناء حزين وأنين لياليها الملاح، فقدت الربابة وصاحبها فصمت الوتر وغصّ النغم وانكفأ الزمن الجميل.
وأضاف سعد: سمير يزبك خسرته رمحالا أولاً، وهو من شبّ في ربوعها وعرف دروبها وألف بيوتها وأحبّ ناسها وأحيا حفلاتها. وهي من كانت له الأم الملهمة تحنّ كما سمعته ينادي «حنّي حنّي يا حنونة»، وقد صنعت بعض هويته وتباهت بما بلغه قامة فنية شامخة وصوتاً ذهبياً شجياً يخرج من جورة الذهب هذه، ويحتل فضاء النجومية الأرحب.
وتابع: رمحالا في حداد لأنها أمّ الصبي، أوجعها غيابه وهو الموجوع والعاشق والتائق إلى تراب أمه. وها هو يعود إليها خيّالاً ينزل عن صهوة حصانه بعدما جال في ميادين الفنّ وصال، وقد غنّى وأغنى واستغنى عن مقابل أو مردود أو التفاتة، وأن رمزية في الوطن الذي أحبّ، إنه قدر أهل الفنّ والإبداع في بلادي. يعطون ولا ينتظرون وهمهّم وهمّنا أن يعود إلى لبنان مهرجانه الحقيقي وفرحه والسلام الذي أنشده سمير ورفاقه وننشده كلّنا.
وختم سعد: نشكر كلّ من شارك رمحالا ألمها، وكلّنا نعيش ألم الغياب وأمل رؤية وطن سمير يعود من جديد، متمنّين أن يجود الزمان بمثل هؤلاء الكبار.
وألقى المحامي ميشال أبي عبد الله كلمة العائلة فقال: نودّعك اليوم مع كلّ المحبّين عائداً كبيراً إلى نعيم ربك إنساناً حانياً تقبّلت الوجع وعشت معه كنعمة لا كنقمة، أدميت الوجع وأدماك، فضحت المرض وتحدّيته، عشت وغنّيت وأطربت وأنت تسكن على صفاف الجراح. لم تكن يوماً شريطاً مسجّلاً بل مجموعة من الأصوات المتداخلة في انخفاضها وارتفاعها في حزنها وكآبتها، في حضارتها وعفويتها، في عافيتها ومرضها حتى سبقك صوتك منذ أربع سنوات إلى فراديس السماء.
وختم أبي عبد الله بشكر الحضور والقوى الأمنية وبلدية بسوس وأهالي قبرشمون والجوار.
ثمّ تلقّت العائلة التعازي، ووري جثمان الراحل الكبير في مدافن العائلة.
وكانت بلدة قبرشمون قد ودّعت الفنان الكبير واستقبلت جثمانه بأجواء من الحزن والأسى، وسط حشود من أبناء منطقة الغرب والشحار. وبعد استقبال النعش الذي حُمل على الأكتاف، والكلمات المعبّرة التي تحدّثت عن مزايا الراحل ونجاحاته التي يعتزّ بها كلّ لبنان، توجّهت الحشود في مسيرة كبيرة نحو بلدة رمحالا للمشاركة في مراسم الدفن في كنيسة مار مخايل.