الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تعيد بمقاومتها وحضورها الاعتبار لليسار الفلسطيني… فهل سيكون بمقدورها توحيده؟
الصمود والمقاومة الفلسطينية الباسلة في غزة قد تشكل لحظة قطع سياسي وثقافي واجتماعي إيجابي في التجربة الفلسطينية الممتدة… غير أنّ ذلك مشروط بقدرة واستعداد القوى السياسية الفلسطينية عامة، وقوى اليسار الفلسطيني خاصة، على استثمار دروس هذه التجربة والارتكاز عليها لإطلاق عملية تقييم ونقد وإعادة بناء استراتيجية للذات الوطنية على مختلف المستويات.
فقد جاء العدوان الوحشي الأخير على الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة في غزة في تموز 2014 في لحظة قاسية فلسطينياً وإقليمياً، حيث كان الواقع الفلسطيني ولا يزال يعاني من أزمة عميقة وعلى مختلف الأصعدة تجلّى ذلك بشكل رئيسي في مفاعيل الانقسام الداخلي وتأثيراته على النضال الوطني الفلسطيني التحرّري إضافة إلى استمرار الحصار على غزة، ثمّ محاولات الهبوط بمفهوم المقاومة هناك، لتصبح معادلاً ضيّقاً لحركة حماس، وهنا ليس المقصود بالتأكيد التقليل أو القفز عن دور وقوة حركة حماس، بل المقصود كشف أبعاد وأهداف المحاولة المنهجية والمنظمة لربط تلك المقاومة وغزة بالمجمل واختصارهما بحركة حماس، أيّ بذات الصورة التي تجري فيها عملية اختصار الضفة الفلسطينية في حركة فتح.
وفي ذات السياق تأتي الإشكاليات التي ترتبت على سياسات وتكتيكات حركة حماس التي أصبحت محكومة بذات المعادلة التي حكمت مواقف وسلوك حركة فتح منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، أيّ معادلة السلطة والمقاومة التي انتهت إلى ما يشبه ابتلاع السلطة لحركة فتح وإخضاعها لسقف السلطة وتوازنات المصالح ومراكز القوى فيها، هذا بالإضافة إلى حالة الارتباك التي سادت في حركة حماس على صعيد تحديد الأولويات، الناتجة عن إشكالية العلاقة مع حركة الإخوان المسلمين ممّا أضرّ وبعمق بصورة وتحالفات حماس كحركة مقاومة وطنية تحرّرية فلسطينية.
ومما ضاعف من حدة الأزمة وبنيويتها في الواقع الفلسطيني أيضاً تجويف الحركة السياسية والاجتماعية في الضفة الفلسطينية من مضامينها الكفاحية في سياق ديناميات الإخضاع والترويض السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني المتواصل، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفقر، الأمر الذي حشر الحركة السياسية والشعبية في الضفة الفلسطينية ضمن سقف الخيارات السياسية المحكومة بمعادلة التفاوض والعمل الديبلوماسي ولا شيء أبعد من ذلك، ترافق كلّ ذلك مع انغلاق أفق التسوية السياسية في ظلّ التعنت «الإسرائيلي» ورفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمها حق العودة، ومواصلة سياسة الاستيطان في الضفة عموماً وفي القدس المحتلة والمحاصرة على وجه الخصوص.
مجمل المظاهر المشار إليها أعلاه كانت تتحرك ضمن سياقات إقليمية وتحوّلات استراتيجية كبرى يشهدها الشرق الأوسط بكلّ ما يرافقها من تدخلات خارجية ومن تغيّرات في موازين القوى، وحالة استقطاب طائفي وديني وعنف اجتماعي وسياسي وثقاف يشامل.
في ضوء ما تقدم تأتي أهمية وقيمة النهوض بدور اليسار الفلسطيني كمهمة وطنية حيوية لتثمير نتائج صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني في غزة… فالصمود الشعبي والمقاومة الفلسطينية في غزة تضع جميع القوى السياسية الفلسطينة، وخاصة قوى اليسار الفلسطيني، أمام مرحلة ومهام وتحديات نوعية بالكامل، إنها فرصة تاريخية، إن جاز التعبير، لكي تعيد قوى اليسار الفلسطيني قراءة واقعها ودورها وبناها وأدائها بهدف الارتقاء إلى مستوى الأسئلة والاستحقاقات الوطنية المطروحة… وهذا غير ممكن بدون إطلاق حالة من الفعل والتفاعل الداخلي، بحيث تتخطى تلك القوى السقوف والبنى التي حكمت أدائها في السنوات الماضية، مما دفعها نحو هوامش الفعل الوطني وأبقاها تحت رحمة ثنائية فتح حماس… الأمر الذي أفقدها، وبصورة كبيرة، المبادرة والقدرة على التأثير الوازن في حركة التناقضات الفلسطينية بأبعادها وتجلياتها المتنوّعة.
لقد جاء الدور المميّز والحضور الفاعل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أثناء العدوان الوحشي على غزة ليعيد الاعتبار لدور قوى اليسار الفلسطيني ولو بصورة نسبية… بل يمكن القول إنها أنقذت هذا اليسار من التلاشي بالمعنى السياسي والفكري… ذلك اليسار الذي دخل ومنذ أوسلو في حالة من الضياع والارتباك في ظلّ معادلة ثنائية فتح حماس، الأمر الذي أفقد المجتمع الفلسطيني وبصورة موضوعية قوة أساسية كان عليها أن تقوم بدورها ووظيفتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً كقوة قادرة على حفظ أو فرض التوازن وكسر تلك الثنائية الضارة من دون التقليل من أهمية ودور ومكانة كلّ من الحركتين في النضال الوطني الفلسطيني.
بطبيعة الحال لا تقصد هذه المقاربة إغفال أو تجاهل دور قوى المقاومة الفلسطينية الأخرى وخاصة حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي اللتان تصدّرتا نوعياً وسياسياً مشهد المواجهة… بالإضافة إلى كتائب الأقصى وألوية الناصر صلاح الدين وعبد القادرالحسيني وفصائل المقاومة الشعبية وكتائب جهاد جبريل وغير ذلك من القوى المقاتلة في الميدان، بل هي محاولة للارتقاء بالذات وبالأدوار من على قاعدة التكامل والتشابك في سياق دينامية وطنية شاملة ترتقي إلى مستوى التضحيات والبسالة التي أبداها الشعب الفلسطيني في مقاومته للعدوان الوحشي المستمر على غزة وعبر نضالاته المتواصلة على مرّ التاريخ… هذا يعني أنّ ذات الأسئلة والتحديات مطروحة أيضاً على القوى الأخرى وبذات القوة… فهذه فرصة لكي تعيد القوى السياسية الفلسطينية جميعها تقييم واقعها وأدوارها بهدف تجديد بناها وخطابها واستراتيجيات عملها مستندة في ذلك إلى الحقائق والنتائج والدروس التي أفرزتها التجربة الفلسطينية الممتدّة والتي توّجت بالمقاومة الباسلة والصمود الشعبي الحاسم في غزة وعلى مختلف المستويات.
إذن، الواقع الفلسطيني بجوانبه المختلفة يضع القوى السياسية أمام أسئلة وتحديات جدية أهمّها غياب استراتيجية وطنية تقوم على التوازن بين مهام التحرّر الوطني وإنهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال ومهام البناء الاجتماعي وتلبية حقوق واحتياجات المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية. هذه التحديات العميقة والمفصلية تؤشر إلى ضعف وهامشية قوى اليسار الفلسطيني، التي وبالرغم من كلّ تاريخها في النضال الوطني وما قدمته من تضحيات، فهي تكاد تكون غائبة عن الفعل والمبادرة، والمقصود بهذا القدرة على التأثير في الأحداث والتصدي الحازم لعملية تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، التي كانت تجري في إطار ديناميتين أساسيتين: الأولى: سياسات الاحتلال «الإسرائيلي» القمعية والعنصرية ضدّ الشعب الفلسطيني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
الثانية: حالة الانقسام الفلسطيني وما يرافقها من عملية استقطاب سياسي واجتماعي على أساس ثنائية فتح – وحماس وما ترتب على هذا الانقسام من ضرب لمفهوم الوحدة الوطنية الفلسطينية سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، وأيضاً تعطيل مؤسسات الشعب الفلسطيني سواء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية أو مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية والاتحادات الشعبية. انطلاقاً من هذه الحقائق فإنّ هناك مجموعة من الأسئلة الأساسية التي تواجه قوى اليسار الفلسطيني في هذه المرحلة ومنها: هل قوى اليسار الفلسطيني تملك القدرة والإرادة على إعادة تجديد ذاتها داخلياً، وكيف؟ وهل هي قادرة على صياغة استراتيجية موحدة لقوى اليسار الفلسطيني، سياسياً وتنظيمياً، لكي تجيب على الأسئلة الحارقة التي يواجهها الشعب الفلسطيني، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً؟ وهل قوى اليسار الفلسطيني قادرة على تقديم نفسها كقوة سياسية واجتماعية وثقافية ونضالية تكسر معادلة الاستقطاب الضارة بين حركة حماس، بخياراتها الاجتماعية والثقافية التي تقوم على مقاربة الإسلام السياسي الذي يعيش أزمة في مصر وسورية وتونس وليبيا وتركيا من جانب، وحركة فتح التي تتموضع خياراتها في سياق التجربة النيوليبرالية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً من جانب آخر؟ التصدّي لهذه الأسئلة وغيرها سيحدّد مستقبل ودور قوى اليسار الفلسطيني، ولن ينقذ هذا اليسار إلقاء مسؤولية ما يجري في الواقع الفلسطيني على حركتي حماس وفتح، بل إنّ ضعف اليسار وتشتّته وجموده وفقدانه للمبادرة والحيوية يحمّله مسؤولية أساسية عن تهميش دوره الموضوعي، الذي من المفروض أن يشكل قوة إنهاض وقوة تصحيح لاختلال المعادلات الفلسطينية.
فإذا لم يتميّز اليسار الفلسطيني بالحيوية والمبادرة في مجابهة الأسئلة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يفرضها الواقع الفلسطيني، فأيّ يسار هو إذن؟! الآن هي لحظة مناسبة لكي يغادر اليسار الفلسطيني حالة الارتباك والهامشية نحو المبادرة والفعل، وإذا لم يبادر فسيختفي عن مسرح الأحداث والتاريخ، فالشعب الفلسطيني يراقب وينظر ويعاني ويضحّي، وفي الوقت نفسه يتابع ما يجري على المستوى العربي والعالمي، وهو يدرك في أعماقه حالة الارتباك والتردّد والميوعة التي تحكم مواقف وممارسة قواه السياسية بمختلف أطرافها في التعامل مع اللحظة التاريخية. هي لحظة مناسبة لقوى اليسار الفلسطيني ليتحرّك، ذلك لأنّ طرفي حالة الانقسام والاستقطاب في الشارع الفلسطيني حركة فتح وحركة حماس يعانيان من أزمات جدية، وخياراتهما ورهاناتهما دفعت بالشعب الفلسطيني وحقوقه نحو زاوية خطرة، فحركة حماس، ومع كلّ التقدير لدورها وتضحياتها الهائلة، إلا أنّ ذلك لا يلغي مظاهر الإرباك والأزمة التي تواجهها على المستوى السياسي بعد تموضعها الأخير وربط مصيرها بمصير حركة الإخوان المسلمين في المنطقة والتي باتت تواجه أزمة جدية في مصر وسورية وتركيا، كما أنّ حركة فتح أيضاً تعيش حالة أزمة سياسية وثقافية في ظلّ فشل مشروعها السياسي في الرهان على أوسلو والدور الأميركي، كما فشل خيارها الاقتصادي عبر فشل سياسة الانفتاح والارتباط بالبنك الدولي والتمويل الخارجي بكلّ اشتراطاته.
إذن… هي لحظة مناسبة أمام قوى اليسار الفلسطيني لكي تتجاوز أزمتها البنوية العميقة أيضاً، وأن تقدّم مشروعها واستراتيجيتها الجديدة، ولكن هذا مشروط بقدرتها على تقديم قراءة شاملة وعميقة للتحوّلات السياسية التي تجري في المنطقة والعالم وانعكاسها على القضية الفلسطينية، وأيضاً إعادة تجديد مشروعها الاجتماعي الثقافي الذي يدافع عن حقوق غالبية الشعب الفلسطيني من الفقراء والعمال والطبقة الوسطى التي تدفع ثمن خيارات القوى الرجعية الدينية والقوى الرجعية النيوليبرالية. فقوى اليسار الفلسطيني مطالبة الآن بتقديم بديلها الوطني التحرّري الديمقراطي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وكفاحياً. أيّ البديل الذي يتجاوز إشكاليات الأزمة السياسية البنوية التي تعاني منها حركتا فتح وحماس بما يعيد القضية الفلسطينية بأسئلتها المتشابكة إلى مكانتها الطبيعية كقضية تحرّر وطني وديمقراطي تقف في قلب المشروع القومي والعروبي التقدمي الذي تشكل مساحة العالم العربي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية إطار فعله الثابت، وهذه ليست مقاربة اختيارية بل شرط موضوعي، يستند إلى حقيقة أنّ القضية الفلسطينية وما يرتبط بها من مقاومات هي مكوّن طبيعي في منظومة النهوض والمقاومة العربية في مواجهة المنظومة الاستعمارية الرجعية الصهيونية النقيضة التي تفعل وتتفاعل في عموم مساحة العالم العربي. لقد هيّأ دور الجبهة الشعبية المميّز في المقاومة البطولية في غزة الفرصة لكي تجدّد الجبهة الشعبية ذاتها أولاً، وأن تشكل قوة قائدة لإعادة بناء وتوحيد قوى اليسار الفلسطيني ثانياً… وكلّ ذلك كي يلعب اليسار دوره على المستوى الوطني والقومي ثالثاً. فالجبهة الشعبية بما تمثله من مصداقية وقدرة على النهوض وتجاوز الصعوبات، إضافة إلى دورها الفاعل في المقاومة وحضورها الجماهيري والأخلاقي والمعنوي في الوعي الجمعي الفلسطيني يضعها أمام مسؤولية إنهاض وتوحيد اليسار الفلسطيني بكلّ ما يمثله من رؤية سياسية وثقافية وكفاحية في النضال الوطني الفلسطيني التحرّري.
لا يعني هذا التمييز للجبهة الشعبية بحال من الأحوال الاستخفاف بأدوار أو أي تنظيم يساري فسطيني آخر… بل إنّ هذا الواقع يفرض على قوى اليسار الفلسطيني بمجملها الاستفادة من الفرصة والقوة الدافعة التي أعطتها الجبهة الشعبية لتلك القوى من خلال دورها المميّز وتضحياتها الكبرى في ملحمة المقاومة الفلسطينية أثناء الحرب العدوانية الأخيرة، والبناء على ذلك لكي تنهض قوى اليسار الفلسطيني، وبما يستجيب لدورها الموضوعي في النضال الوطني الفلسطيني، بالتأكيد هذه ليست عملية سهلة… ولكن ليس هناك خيار آخر سوى مواصلة السير في ظلال الآخرين.
وفي ذات السياق من الضروري التنويه إلى أنّ مقاربة نهوض قوى اليسار الفلسطيني يجب التعامل معه كعامل قوة لمجمل حركة التحرّر الوطني الفلسطيني بكافة أطيافها، بما يحمي تلك الحركة من الوقوع تحت سطوة وثقافة الهيمنة والأحادية أو حتى الثنائية، فما يناسب طموحات وتضحيات الشعب الفلسطني هو قوس قزح سياسي فلسطيني يحتفظ فيه كل لون بجماله ودوره ووظيفته من على قاعدة التمسك بوحدة وحقوق الشعب الفلسطين وحماية أهدافه الوطنية والقومية.
خلاصة القول إنّ تجربة المقاومة والصمود العظيم في غزة يجب أن تتحوّل إلى قوة إنهاض وطني شامل لتجاوز المرحلة السابقة والتأسيس لمرحلة قادمة، غير أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا إذا جرت عمليات قطع حاسمة مع كلّ العوامل والسياسات والثقافة والممارسة والبنى والعلاقات التي دفعت بالشعب الفلسطيني ونضاله الوطني نحو دوائر الأزمة والإحباط، والتأسيس لديناميات النهوض الوطني الشامل، فهل ستتجاوز القوى السياسية والنخب والحركة الاجتماعية الفلسطينية ذاتها وواقعها المأزوم لكي تؤمّن شروط نجاح هذه المهمة الوطنية الكبرى؟