محمد العرابي: استقصاء مبسَّط في تاريخنا الصوفيّ يؤكّد القرابة الموجودة بين المقدَّس والشهوانيّ
حاوره: أحمد الشيخاوي
ها نحن نحطّ الرحال ثانية ونرشّ بورود اقتفاء أثر الهامات على امتداد وترامي خارطة الإبداع العربي الرشيق والطاعن بنورانية متونه. ننبش في عوالم من الأسرار عسى نغنم ما يدغدغ الحنايا وينير لنا الدروب. إنّما بنكهة مغايرة هذه المرّة، وحيث ينتهي بنا المطاف وتستقرّ بنا ساقُ الفضول المشروع.
ها نحن بمعيّة مبدع مطبوع جملة وتفصيلاً، سندباد ما ينفكّ يغامر ويقامر أعزلَ إلّا ممّا يزيّن ويحبّب له الصولة داخل حدود الورقة في صوفية مذاقاتها وعذريتها وبراءتها وتضوّع عبيرها وغواية بياضاتها التوّاقة على الدوام إلى الخيانة والافتضاض غير الرّحيم. لعلّه تجديف مضادّ مثلما تدشّنه روح باسلة تتشرّب حد الغيبوبة تعاليم «باتاي» على درجة عالية من العمق والوعي، دونما الاكتراث لفخاخ حواشي الورق.
مبدع لا يستهويه اللوح الإلكتروني إلّا في ما ندُر. يأبى إلّا أن يتشبّع بثقافات الغيرية عبر الإفادة من امتياز الترجمة كخيار مواز للممارسة الشعرية، تبنّاه صاحبنا وراهن عليه لأجل صقل أدوات الكتابة لديه ومراكمة تجربة إبداعية باذخة افتتحت بمجموعة «من غير أن يمسسه الماء»، فديوان «محرّك الدمى»، مروراً بـ«تجربة الليل»، فالمنجز الحديث الذي هو قيد الطبع تحت وسوم «فراش ذبح». أخيراً وليس آخراً، الشاعر المغربي المتألق محمد العرابي. لي قصة ماتعة وأقرب ما تكون إلى الخرافي، مع هذا الاسم الوارف بقطوفه، تشكّلت خيوط بدايتها ونبتت مع الجذور الأولى لعشق وإدمان المطالعة لديّ. بحيث حدث أن قرأت أول ما قرأت للرجل، بالصدفة، منشوراً تضمّنته مزقة لنسخة من جريدة «الاتحاد الاشتراكي» آنذاك، تحت عتبة «القناع». تلك النبوءة والتكهن ـ إذا شئنا ـ بديمومة لحظتنا في دياجير متلونة ومتقلبة في أقنعة لا حصر لها ولا انتهاء إلّا بنزعها لارتداءات أخرى أكثر تناغماً وتناسقاً مع الموضة الجديدة الخادعة والمراوِغة. بذلك أينع من يومها التجاور الروحي وفاحت رياضه، ليثمر انتهاء تلاق ميدانيّ حميميّ مضياف بصمته آخر زيارة أقوم بها لمدينة ميسور. كمفارقة ذروة في الطرافة، على اعتبار مسقط رأس كلينا متاخم للآخر. وعنيت المدينتين الصغيرتين أوطاط الحاج وميسور الموغلتين والثاويتين في دغل المغرب، المغازلتين حلماً طفولياً كبيراً، المتهمتين بالانتماء إلى ما اصطلح عليه عدواناً وإجحافاً «المغرب غير النافع»، وإن على سبيل التوصيف والتقسيم الجغرافي في علائقه ولُحمة التصاقه بالغنيمة المفاهيمية الاستعمارية.
انتفض شاعرنا وأصرّ وكابر والتزم بمنحى نضالي تصاعديّ لحين تأتّى له قسط من المشتهى، فاستطاع بالتالي انتشال ذاته من مخالب العطالة وأوجاعها الخانقة، يمتهن التدريس حالياً.
هلّا تضعنا في الصورة فتسرد لنا في عجالة البعض من طقوس أحدث أضمومة شعرية لك، خصوصاً أنك خارج للتو من مخاض لم تزل تتلمّظ معنى الإخلاص والوفاء للقصيدة حدّ السمو بها فوق الحياة بعينها؟
ـ عذراً، إن بدأت هكذا: جئت إلى الكتابة من باب ملتبس، من باب الجناية والسطو والجريمة: سرقة الكتب… كان أصدقائي، في السوق، يسرقون فواكه وأثواباً، وكنت أسرق أخطر الفواكه وأكثرها فتكاً، ولم أكن محصناً ضدّ الغواية، ولم أملك دفّة للنجاة من لجج الخيال والفكر؟ ومنذ أن قرأت، بالعربية، أو الكتب كتبي المسروقة ولم أكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من العمر، أيقنت أنّني ضعت، وأنّني دخلت ماراتون مضايقة مسحورة لن أعود منها أبداً. ومن السخرية أن أول كتاب بالفرنسية رمته السرقة في طريقي لم يكن إلا كتاب بلزاك: «الجلد الأحرش» أو «الجلد المسحور la peau de chagrin»، الجلد الذي يحقق لرفائيل كل رغباته، لكن ما إن يحقق له رغبة حتى يتقلص وينكمش ويقرِّبه من حتفه. منذ أن قرأته، أحسست أني ألقيت حجري في بركة أخرى لا قرار لها، ستزيد ضياعي أكثر، في لغة ثانية. آخر مرة حاولت أن أسرق كتاباً كان في أواسط التسعينات، من أحد المعاهد الغربية في مدينة فاس. قمت بتسجيل استعارة خارجية للمجلد الأول من الأعمال الكاملة للشاعر بيار جان جوف. لكن، عوض أن آخذ الكتاب الذي عليه القيد، أخرجت المجلد الثاني. كنت بارعاً في التخطيط لسرقة الكتب، لكن المرور بالأجهزة الرقمية اللعينة كشفني، ومع ذلك قلصت نسبة الحرَج وأعطيت الانطباع بأن المحاولة كانت مجرّد خطأ في التقدير. في النهاية، وبحكم الإقرار بالجرم والعود إليه «r cidive»، أنا مجرد سارق كلمات، وسارق أفكار.
حدثتني عن أحد أقنعتي الذي وجدته في مزقة من جريدة. الديوان الأخير «فراش ذبح» وجه آخر من هذه الأقنعة المسروقة التي أختفي وراءها. قناع يسكن قناعاً، قناع لا فكاك لنا منه، ببساطة لأنه عُقْدتنا الصغيرة المبرمة أبداً.
ذلك هو الأنثوي. من شرفته أحاول أن أطلّ على كون أسئلته الحارقة، من خلال أنثوية باذخة احتمت دائماً بالالتباسات التي تلف العالم، بالوقوف عند نماذج لا تخطئها العين، مثلت تجلياً ولحظة فارقة في بناء نموذجها الأسطوري المنشطر بين الرغبة ونقيضها، بين السمو الروحي والانكسار الشّهوي، أو العكس.
ماذا يقول لنا هذا الأنثوي خارج أطرنا الثقافية الذكورية؟ كيف يفكر ذاته؟ كيف يفكر آخره؟ كيف لمّ تشظّيه وهو في قبضة الحمى الكونية، وكيف يحيا أزمته حين مواجهة غريمه؟ هل ينفتح؟ أم يظل بين أسوار مناعته؟ باعتبار أن معناه، معنى كينونته، يحتاج دائماً إلى علاقة بأكثر من واحد مطلق في عزلته؟ يزعم جورج باتاي في كتابه «التجربة الداخلية»، بأنه لا وجود لمعنى بالنسبة لواحد… «il n y a pas de sens pour un seul».
النماذج الكونية التي غرقت في عزلتها، كبطلة مالارميه: «إيرودياد»، ونرسيس في عشق صورته آلتا إلى المأساة وبؤس المصير.
بأي ثمن إذن يحقق الأنثوي معادلته المستحيلة: تخليص الجسد من تاريخ طويل من الاضطهاد والاستغلال والعبودية،من الحرمان والوصاية، وعدم الوقوع في نفس الآن، في فخ التعالي المطلق على الآخر الذي من شأنه أن يورد الأنثوي مورد الحِمام؟
بهذا القناع المسروق إذن، وضمن رؤية حاولت أن تفكر سرّ المرأة الذي لا يعرفه إلا من عرف فيم وُجد العالم، بتعبير الشيخ الأكبر، ولا أزعم أني أعرف فيما وجد العالم، لأني زائف بالنهاية أحاول كحالم أن أنصت لهسيس الأنثوي الذي قهرناه بهذه الذاتية المتضخّمة حدّ التفسخ، بعد أن لم تعد تعرف غير الشرنقة الذاتية للأنا، وغير العصاب لمسرحة هواجسها.
كيف يعيش محمد العرابي تجربة المزاوجة بين الممارسة الشعرية وفعل الترجمة؟
ـ الترجمة فعل قراءة أساساً. وأنا أقرأ نصوصاً شعرية كانت تمارس إغراء خاصّاً نهاية ثمانينات القرن الماضي، كنت أحاول أن يصل التذاذي بهذه النصوص مداه، فأنقلها لحسابي من لغتها الأصلية وأخضعها لعنف كلماتي لنتذكر أن ولادة كلماتي حملت جينات واقعها القائم على السلب . معي الآن الكثير من الأشعار المترجمة والتي أحتفظ بها لنفسي تتسلل كلماتها أحياناً لما أكتب، أحتاج لجهد كبير لأن أقطع من دون رحمة، المسروق من لغة أخرى من شعرية أخرى. ما أحاول أن أقوله إننا مهما ادعينا الأصالة في الكتابة فإننا نكتب في أثر نصوص أخرى تدخل طوعاً أو قسراً إلى كتابتنا باعتبارها لاوَعْي اللغة. كل ما هناك، أن أفضلنا ينجح في مسح أي أثر لنصوص سابقة، أو على الأقل لما يضرُّ كتابته من هذه العوالق. ومن هذا المنظور نستطيع أن نوسع مفهوم الترجمة ليشمل كل النصوص التي نقرأها في لغة الآخر، أكان عربياً أم أعجمياً. ألسنا نترجم هذا المقروء المسروق بحسب حاجاتنا، وبحسب تجاربنا في الحياة، بكلماتنا الخاصة؟
إذا ما عرّجنا بالحوار قليلاً، ميلاً إلى تابو الجندرية بعدّها خطاباً راح يفرض حضوره تدريجياً. المشهد الإيروتيكي الذي بات يغزو ساحة التلقي وإن بأقنعة أشدّ تعصرنا، بين الأصوات المناهضة له، وضرورة التسلّح بمقاربات مستحدثة سانحة بمعالجات عبر زاويا مختلفة، أكثر تعقّلاً وإنصافاً، تمهيداً لفكّ ألغاز وطلاسم كهذه ظاهرة شائكة ومتشعّبة. لا أخفيك أنه حدث ورشقت أقلاماً عدة منتسبة في عمومها إلى نون النسوة، بوابل ووبال استنطاقات حول هذه الحساسية، يبدو أن ما حصدت عقبها لم يشفِ غليلي بعد. النزعة الإيروتيكية السائدة والسارية حالياً، بسيف نون النسوة على نحو خاصّ، كضرب من بعث لما يمكن أن أسمّيه شخصيا «الذاكرة القبانية» تبرّكاً بأمجاد الشاعر السوري العظيم نزار قباني. هل هي ضرورة إبداعية تلبّي حاجيات الموجة الشبابية المعروفة بانفتاحها الأعمى على كل شيء تقريباً وفي خضمّ مغامرة مجنونة غير محسوبة التبعات والعواقب، قلما تتيح لها معطيات إشباع الكبت وإرواء العطش الروحي؟ أم أنها حالة مرضية باعثة على انحسار وشلل ثقافيين إجمالاً؟ تقييمك للظاهرة؟
ـ الجسد أحد تجلّيات الإبداع. والإنسان كائن منعزل يواصل عرضه المأسوي بشكل فردي، يؤديه إلى النهاية إلى أن يسقط صريع الموت. ولجعل الجسد يزهر أثناء هذا العبور،على هذا الإنسان أن يكسر قوقعته وينفتح على الآخر. شكل هذا الانفتاح هو الذي يحدد في الأخير كيفية معالجتنا للظاهرة. هناك من تستهويه الغنائية المدغدغة للعواطف، آخرون يواجهون التحريم والمنع في التعامل مع الجسد بالدعوة إلى تحرير تام للغرائز. البديل عن هذا وذاك، يرفض أن يدلِّس ويقرُّ، ببساطة، أن اللذة والشعور بالذنب لم تنفصم عراهما يوماً. وهو ما يعزّز الشعور بأن الفعل الإيروتيكي يحتفظ بوشائج تقربه من المقدَّس. ولتحقيق تواصل فعال، يحقق المتعة واللذة في آن، يجب خرق العزلة التي تطبع مصير الذات بصبِّها في محيط الآخر غير المحدود في سبيل تواصلية مع الكون والكائن لا تتحقق إلا بالموت. ألا يُشكِل علينا الأمر حتى ليخيل إلينا أننا بصدد الحديث عن تجربة صوفية؟ ونحن كذلك بالفعل. استقصاء مبسَّط، في تاريخنا الصوفي سيؤكد القرابة الموجودة بين المقدَّس والشهواني.
مبدأ أو ميكانيزم الصوغ المغاير في إنتاج الذات الإبداعية وفق أسلوبية تهب النصَّ ولادة ثانية إبان كل بزوغ وتبعاً لتراكم التجربة. إلى أي حدّ وبأيّ وثيرة تراك اشتغلت عليها أنت واستثمرها باقتصاد في أجدد منجز لك؟
ـ في «فراش ذبح» وضعت هذه اللافتة في مستهل الديوان: «هذه قصائد طويلةٌ مكتنزةٌ هركولةٌ، بتعبيرالأعشى، كُتِبت، بادئ الأمر،، بملحميّةٍ تليق بأنثويةٍ باذخةٍ، ولاعتباراتٍ فنّيةٍ محض، تعرّضت لتعريةٍ شديدةٍ لم يبقَ منها سوى هيكلها العظميّ الذي لولاه لانقصَفَت وخَبَتْ، حتّى يكاد ينطبق عليها قول المتنبّي: لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني من شدّة تقشّفها اقتربت من العفاء».
انتبهت، بعد فوات الأوان، إلى مسألة غاية في الأهمية وهي مسألة البناء في الشعر. دواويني السابقة كُتبت بملحمية فادحة، حتى كانت القصيدة تمتد لاهثة مدى الديوان. كتابة من هذا القبيل تتيح لك اختبار كمٍّ هائلٍ من التقنيات والأفكار المنتمية عموماً إلى الموسوعة. إلا أنها تحرمك بالأساس من أهم شيئين في الشعر، وهما الإيجاز والدقة في وضع اللبنات، إذ كيف يتسنّى لك إحكام البناء والكلام يأخذ بعواهن بعضه؟ يعجبني تشبيه الروائي الفرنسي أندريه جيد في روايته «مستنقعات، Paludes»، على لسان إحدى شخصياته بأن الكتاب الحق، مغلقٌ، وممتلئٌ، أملسُ مثل بيضة، لا تقبل أن نُدخل فيها ولا حتى رأس إبرة إلا بالقوة مما يتسبب فيكسر شكلها. شعراء كثُر يقضون سحابة عمرهم في إصدار عدد من الدواوين من دون أن يعرفوا أبداً ما الذي يعنيه فعل البناء.
كلمة ختامية؟
ـ أسئلة كثيرة ما تزال معلقة. وأتساءل أنا بدوري، من أين تأتيك كل هذه الطاقة لتقبض على جمر الشعر على طول هذه الجغرافيا العربية المترامية الأطراف؟ وكيف استطعت أن تفلت من كل هذه البكائيات والندوب التي ترتفع هنا وهناك، وتتهم النقد عموماً بتقصيره في متابعة الأعمال الإبداعية، وإن فعل، فلن تتأخر تهم تبادل المنفعة والشللية برشقه؟ وتقديري أنك عاشق كبير للجمال تولي وجهك شطره أنّى وجد.
والتحية إلى روحك الشفافة الرقيقة شاعرنا المتألق محمد العرابي. النقد في جميع الأحوال متّهم، وهذه ضريبة كل مولع بالجمال.
شاعر وناقد مغربيّ