محمد البعلبكي… الشاهد على قرنٍ مضطرّب
سليمان بختي
كان محمد البعلبكي من الوجوه التي تعزّز الأمل في البلد، وأصعب انتصار للإنسان هو انتصاره على الأمل لأجل الآخرين والمجتمع والحياة. كان الحارس في الصحافة يسهر على النور، ونقيباً منذ 1982 حتى2015، والفارس في الميدان يصارع التنّين. وبه الضوء الذي ينير الدرب ويعبره الذين في العتمة، وبه نخوة المفكّر الصاعد إلى شمسه وظلاله وإلى رحابة شخصيته كونه البالغ في عطائه والغنيّ في ميراثه.
كان أباً للكل، وصديقاً للجميع، بشمول ولطافة ومؤانسة، وكان رجلاً صاحب رؤية خلابة وقنطرة عالية تدخلها بالحبّ وتخرج بالرضى. وتظفر غالباً بالطرفة المليحة أو القول الفخم أو الموقف الوقفة. ظاهرة محمد البعلبكي جامعة. إنسان مرجل. رمز من الرموز النهضوية التنويرية التي تجمع وتبني وتوحّد وتحترم في هذا البلد.
منذ بدايته طالباً في كلّية المقاصد الإسلامية والكلّية الشرعية، توطّد لديه حسّ مناقبيّ رفيع لبث يرافقه كالظلّ أو كالطيف. غرف من الإسلام معرفة عقلانية ولغوية وإنسانية عميقة مكّنته من الفصاحة ورجاحة النظر في الأشياء ونبذ التفرقة.
علّم في الجامعة الأميركية في بيروت وتتلمذ على يديه بطريركاً اعناطيوس هزيم وصحافياً رائداً غسان تويني ومفكراً ثاقباً مُنح الصلح وحقوقياً متنوّراً بهيج طبارة . وكلّما التقاهم تذكّر الزرع الطيّب، وكلّما التقوه تذكّروا الزارع الأستاذ القدوة.
يتذكّر البعلبكي مساره في الصحافة مثلما يتذكّر مساره في العمل الحزبيّ. يتذكّر أنّ الرئيس سامي الصلح عرض عليه في مقهى الغلاييني في الروشة منصب سفير، وأنّ الرئيس أمين الجميل عرض عليه منصب رئيس الوزارة لكنه رفض حبّاً ووفاءً وعشقاً لصاحبة الجلالة الصحافة. وانطلق من «الديار» إلى «الصيّاد» إلى «كلّ شيء» إلى «صدى لبنان»، والتي جمع فيها إلى جانبه الأقلام والاتجاهات التي لا تُجمع مثل سعيد تقي الدين وأمين نخلة وصلاح لبكي، وغيرهم.
ولبث يفاخر أنه كان يناقش أنطون سعاده في أفكاره قبل دفع مقالاته إلى الطبع في «كل شيء» وبعدها.
يتذكّر حين طلب منه سعاده ـ بحسب كلمات البعلبكي ـ أن يضع ردّه في العدد التالي قرب مقالته. والمستوى كالأفق نرقى إليه، يقول. تلك المقالات الشهيرة التي بدأت بـ«العروبة أفلست يا سادة» و«الانعزالية اللبنانية أفلست»، وغيرها. كانت تلك الأيام فاتحة لمعنى جديد، لدور السياسة في بلادنا لنقلة كبيرة في حياته. انتقل من حزب «النداء القومي» الذي أقطابه كبار مثل كاظم الصلح وتقيّ الدين الصلح ومحمد شقير، إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسّسه نهضويّ تنويريّ إصلاحيّ كبير اسمه أنطون سعاده، جعل من الفكر سياسة ومن المناقب سياسة ومن أحلام بلاده سياسة ومن النهضة سياسة.
واجتاز البعلبكي قنطرة الشكّ إلى اليقين، وأقسم اليمين في حضرة الزعيم في لقائه الأخير معه في الشام، وفي الهزيع الأخير من أيّام سعاده. يستذكر البعلبكي أنه كان من آخر الذين التقوه قبل أن يسلّم نفسه إلى السلطات. ماذا قال له الزعيم وماذا حفظ عنه البعلبكي. «إنها ذكرياتي مع سعاده»، يقول: «والذكريات هنا روابط الفكر والروح واضطرام الحنين والأمل». عندما أُعدم الزعيم وضع محمد البعلبكي صورة بيت الزعيم في الصفحة الأولى وكتب: «وضع الأساس وارتفعت القوائم». شارك البعلبكي في الانقلاب القومي الشهير ليل 1961/1962 وكان بإمكانه الهرب والنجاة، ولكنه المسؤول الأمين لا يتناقض مع نفسه ولا يخون الأمانة. وكانت له في المحاكم وقفات ومحطات ومطالعات مشهودة. وسُجن حتى عام 1967 أي سبع سنوات وستة أشهر. وعلى إثر ذلك، لبثت علاقته بالحزب متوترة وبالفكر راسخة وتزداد رسوخاً، وبباعث النهضة أملاً لا يغيب.
في شخصية محمد البعلبكي يلتقي الصحافي بالمعلم بالحزبي الملتزم قضايا المجتمع والشأن العام بالراعي المسؤول عن الصحافة ودورها في لبنان. وعلى حدّ وصف الشاعر شوقي أبي شقرا له: «هو جزء من الكلمة في لبنان ولطالما قالها هنا وهناك صعوداً إلى الحقيقة وإلى الكشف عن أنها أساس لديه ولدى كل الطليعيين وهو جزء من الوطن، من رسالتنا إلى العالم بدءاً من المعالم الحقيقية أمثاله وكأنه في زورق دائم السفر كي ينشل الواقع من الغرق». يحدّه شغف كبير بالمعرفة لا يأتي منه إلا بمسرّة عابرة أو فائدة عظيمة أو أمر جلل.
كثير هو محمد البعلبكي ومتشعّب، ولا يخيّب آمال سائليه. يحتفظ في درج مكتبه ببحثين، واحد عن الحرّية في القرآن، وآخر عن مفتاح النهضة في القرآن الكريم. وما أحوجنا إلى الحرية والعقلانية والنهضة في الإسلام اليوم. ويحتفظ أيضاً بأشرطة مسجّلة لساعات من الذكريات أعطاها كمقابلات لإذاعة «صوت الوطن». متى تصبح هذه الذكريات الغنيّة والنادرة كتاباً؟
كلما زرتَه آثرك بحبّه وآزرك بأدبه. عنه نقلت وسمعت هذا البيت:
أن نفترق نسباً يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالد!
عندما توفّيت زوجته ماغي نصر جلس في الكنيسة يتقبّل التعازي برفيقة العمر، وهو المسلم القومي العلماني يصلّي على النبي ويلعن ما يفرّق الإنسان عن الإنسان والحياة عن أبنائها. يعرف أنّ الصحافة هي مرآة الأمة ومقياس نهضتها بحسب سعاده وعلى هدي هذا القول مشى. ويعرف أنّ الصحافة أوعية التاريخ وسرّ الأدب وفهارس الأزمنة، وهو يؤثر كل ذلك ويلازمه. وهو في ما يسعى إليه أقرب ما يكون إلى ما سمّاه الدكتور منير خوري زميله في سجن «القلعة»، «القدوة الايحائية».
كان محمد البعلبكي شجرة باسقة مخضوضرة من أشجار المعرفة في بلادنا. وريادة نادرة في زمن التهافت. كان شاهداً كبيراً على قرن مضطرب من الدهر. قطعة أثيرة من حياة الأيام. جوهرة حقيقية في زمن البهتان والابتذال.
غاب محمد البعلبكي في زمن بدت فيه المبادئ والمعايير التي دافع عنها طوال عمره غريبة عن هذا الزمن وأهله، فآثر الرحيل.
كاتب وناشر