لن ننسى قانا رمز العلا في سمانا… ولن ننسى الأعراب رمز الذلّ في دنيانا
اياد موصللي
عندما نستعرض صفحات من التاريخ ونطلّع على الأحداث التي جرت فيها تبرز أمامنا حقيقة هذا العالم بوحشيته وهمجيته.. نتحدث عن الحضارة، عن الرقيّ، عن التقدم، ولا نتحدث عن شريعة الغاب والبطش واستغلال القوة.. لم يتغيّر في الإنسان سوى المظهر في شخصه وفي نمط حياته وتقدّمه العلمي والعمراني. أما نفسيته فبقيت تختزن الوحشية ذاتها التي عرف بها منذ نشأ وقبل مجيء الأديان والرسل، وقبل تطوّر العلم والمعرفة الأخلاقية.. بقي الوحش وحشاً والضحية ضحية إنما بديكور جديد وأسلوب جديد، فبدلاً من الفأس والسكين جاءت أسلحة القتل والتدمير والسحق والمحق..
لن نذكّر بهيروشيما ولا الحروب ولا هتلر وموسوليني ولا بوش وترامب.. بل نتوقف عند الغارة الأميركية على مطار الشعيرات في حمص بسورية، وهي التي جرت وكأنها رحلة صيد. ونقف عند مذبحة قانا ونحن اليوم نستعيد ذكراها وكأننا نفتح صفحة من تاريخ «الفايكنز» او التتر او المغول او عصر أكلة لحوم البشر، فلا نجد ما يفرّق بين هذا الزمن وذاك الزمن إلا أدوات القتل والتدمير التي أصبحت أفتك وأسرع وأفعل…
وحوش ترتدي الثياب الجميلة وتحتسي الخمور وتفاخر بما تفعل.. فإذا قرأنا ما كتبه المؤرّخ كاسيوس في الكتاب رقم 67 الذي وضعه وفي الفصل 32 من الكتاب يصف ما جرى في القرن الثاني للميلاد 117 . فنتأكد أننا في العصور الهمجية ولكن بعطر كريستيان ديور يقول: «حينئذ عمد اليهود في CYRENE شواطئ طرابلس الغرب حالياً، بقيادة اندريا الى ذبح الرومان واليونان وأكلوا من لحمهم وشربوا دماءهم وسلخوا جلودهم ولبسوها وقطعوا أجسام كثيرين منهم نصفين من الرأس فنازلا، وألقوا بالكثيرين الى الحيوانات المفترسة وأرغموا الكثيرين على ان يقتل بعضهم بعضاً بالسيوف حتى بلغ عدد القتلى 220 الفاً، وفعلوا مثل ذلك في مصر وقبرص بقيادة AREMION وذبحوا 240 الفاً MYIRELEVENET- DEFENCE- ARNOLD LEESE.
أما ما جرى في قانا في المجزرة الأولى في 18 نيسان 1996، أيّ منذ واحد وعشرين عاماً، وفي المجزرة الثانية 30/7/2006، أيّ منذ أحد عشر عاماً.. فلا يختلف كثيراً..
تمّت في مركز قيادة فيجي التابع لـ»يونيفيل» في قرية قانا جنوب لبنان، حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بقصف المقرّ بعد لجوء المدنيين إليه هرباً من عملية «عناقيد الغضب» التي شنّتها «إسرائيل» على لبنان، أدّى قصف المقرّ إلى استشهاد 1066 من المدنيين وإصابة الكثير بجروح. وقد اجتمع أعضاء مجلس الأمن للتصويت على قرار يدين «إسرائيل» ولكن الولايات المتحدة أجهضت القرار باستخدام حق النقض الفيتو. في الثامن عشر من نيسان عام 1996 بعد الثانية ظهراً بقليل أطلقت المدفعية الإسرائيلية نيرانها على مجمع مقرّ الكتيبة الفيجية التابعة لقوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان، في ذلك الوقت كان ما يزيد على 800 مدني لبناني قد لجأوا إلى المجمع طلباً للمأوى والحماية فتناثرت أشلاء ما يقرب من 250 قتيلاً وجريحاً، حمل 18 منهم لقب مجهول يوم دفنه.
وحصلت المجزرة الثانية في قانا ابان العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006. وسقط جراءها حوالي 55 شخصاً، عدد كبير منهم من الأطفال الصغار الذين كانوا في مبنى مكوّن من ثلاث طبقات في بلدة قانا حيث انتشلت جثث 27 طفلاً من بين الضحايا الذين لجأوا إلى البلدة بعد أن نزحوا من قرى مجاورة تتعرّض للقصف بالإضافة إلى سكان المبنى، وقد قصفت «إسرائيل» المدينة للمرة الثانية بحجة أنها كانت منصة لاستخدام الصواريخ التي كانت تطلق على «إسرائيل» من حزب الله خلال عملية «الصيف الساخن» في لبنان، وأكد حزب الله أنّ المبنى لم يكن فيه مقاتلون من الحزب وأنّ جلّ من استشهدوا هم من النساء والأطفال.
وما جرى في قانا المدينة الصغيرة في جنوب لبنان تحدث عنه الكاتب الاميركي ديفيد ديوك في كتابه الصحوة فيقول في الصفحة 309: «كانت قانا في جنوب لبنان مذبحة، لم أر منذ صبرا وشاتيلا الأبرياء يذبحون بهذه الطريقة. كانت النساء اللبنانيات اللاجئات والأطفال والرجال مكدّسين أكواماً وقد بترت أيديهم وأرجلهم، وقطعت رؤوسهم وبقرت بطونهم كان هنالك أكثر من مئة شخص بهذه الحال، كان هنالك طفل بلا رأس. كانت القنابل الاسرائيلية تحصدهم وهم مختبئون في ملاجئ الأمم المتحدة اعتقاداً منهم بأنهم آمنون في حماية العالم. أمام مبنى الكتيبة الفيجية والذي كانت تلتهمه النيران، كانت فتاة تحمل جسداً بين ذراعيها جثة رجل أشيب تحملق فيها، تهزها وتبكي مردة عبارة بابا…. بابا »
دامت المذبحة الاسرائيلية عشرة أيام بلياليها وراح ضحيتها 260 شخصاً بحيث لن ينساها اللبنانيون ولن يصفحوا عنها ابداً.
لا لن ننساها: قانا.. من ثرانا، من هوانا، من أقدس قرانا، رمز العلا في سمانا، بماذا أناجيك، بماذا أناديك. أأنعي باكياً واجثو شاكياً، أأخور نادباً، بماذا بماذا؟؟ البكاء والدموع لا تغسل جريمة الأوغاد ولا تعيد الروح الى أجساد الأولاد.. وأطفال قانا لا يودّعون بالدموع ولا بشقّ الصدور ولا بلطم الخدود…
ضحايا قانا يودّعون برشق الزهور بالأهازيج والأناشيد.
ضحايا قانا لا يودّعون بتراتيل القداديس، وتكبير المآذن.
ضحايا قانا أطفال، نساء ورجال يودّعون بالدبكة وبالرقص، ومن أجلهم تقام أقواس النصر، لتمرّ من تحتها نعوشهم، فهم قوافل العزّ تنقل جثمانين شهداء أبرار شقوا بدمائهم طريق المجد لشعبهم وأمتهم. أطفال قانا بذور الحياة في تربتنا. ونسمات الخير في سماء بلادنا. شهداء قانا حراس حريتنا ورأس الحربة في صدور المعتدين على ترابنا، شهداء قانا هم صخور تحمي حدودنا، صخور حفرت عليها وبها ومنها ملاحم مستقبلنا، شهداء قانا هم عصارة شهداء الجنوب الصامد وجه لبنان الجميل يحمله رأس شامخ، شهداؤنا رمز الحياة فينا، شهداؤنا يمثلون طليعة انتصاراتنا الكبرى.
شهداء قانا هم رمز لكل لبنان. في كلّ مزرعة وقرية ومدينة، نبض الحياة يبشر بالخلود. فنحن أمة أبت أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة.
قانا يا رمز جنوبنا الحي، وشمالنا الأبي، وبقاعنا العتي، وجبالنا الشماء، قانا يا قرية وادعة ربطت الأرض بالسماء في جسر من أرواح براعم غضة من فلذات قلوبنا، جسر نادانا أطفال قانا قائلين: «هذا جسر من أجسادنا فاعبروا الى المجد يا أهلنا… نودّع الأرض التي أحببناها نسقيها بدمائنا. فلا دموع بعد اليوم…»
هذه المجازر، هذه الأحداث هذا التشجيع الأميركي تكرّر عام 2006 خلال العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان، ولكن المشهد تبدّل فلم تكن الاستكانة هي نتيجة ما حصل ولم يعد قول العاجزين يتردّد «العين بصيرة واليد قصيرة»، بل كانت اليد طويلة هذه المرة وأمسكت المعتدي من رقبته وداسته بأقدامها، فقد استعاد الشعب إرادته وحزم أمره في مقاومة لبنانيه صادقة… أميركا وأوروبا والممالئون الخانعون الخاضعون لإرادة التسلط لم يروا في كلّ ما فعلته «إسرائيل» وتفعله ارهاباً بل رأوا انّ إرادة الشعب هي إرهاب وهي عدوان… لذلك علينا ان نردّد دائما: «السيف أصدق انباء من الكتب»، ونردّد مع الشاعر نزار قباني: «سميتك الجنوب»
«يا من يصلي الفجر في حقل الألغام، لا تتنتظر من عرب اليوم سوى الكلام، لا تنتظر منهم سوى رسائل الغرام.. سميتك الجنوب»، يا شجر الورد الذي يحترف الغناء، يا ثورة الأرض التقت بثورة السماء، يا جسداً يطلع من ترابه قمح وأنبياء، اسمح لنا بأن نبوس السيف بين يديك.
يا أيها السيف الذي يلمع بين التبغ والقصب. يا أيها المهر الذي يصهل في بريه الغضب، إياك أن تقرأ حرفاً من كتابات العرب، فحربهم إشاعة، وسيفهم خشب، وعشقهم خيانة، ووعدهم كذب.
أياك أن تسمع حرفاً من خطابات العرب، فكلها فجور وقلة أدب، وكلها أضغاث أحلام ووصلات طرب، لا تستغيث بمأرب، او وائل، او تغلب، فليس في معاجم الأقوام قوم اسمهم عرب!
الآن لم تعد مجزرة قانا وحدها هي صورة للوحشية والعدوان، فبعد الأحداث التي شهدتها سورية في الشام والعراق، وما يشهده اليمن وليبيا من التوحش البربري المصنوع بمشاركة عربية وأموال عربية ودعم عربي يصحّ ان نقول للعرب:
كنتم خير أمة أخرجت للناس…
فأصبحتم آخر أمة بين الناس…
كنتم السادة لكم القيادة والسيادة…
كان العدل أساس الملك عندكم كالعبادة…
كنتم الأعزة فأصبحتم الأذلة…
ملكتم السلطة والمال وفقدتم الكرامة…
كنتم الأعلون فأصبحتم رمز الذلة والمهانة…
كبيركم أمير وحاكمكم برتبة مخبر أجير…
كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر…
فأصبح لكباركم الخسة والمال معبودهم الأكبر…
أعطاكم الرب الخيرات وأفضل الرسالات والدعوات…
فلحقتم الشيطان وأخفيتم الفسق تحت العباءات…
صرتم قادة بلا قيادة والخيانة رفيقكم تحت الوسادة…
ولا زلتم بنظر قادة العالم رعاع رعاة أغنام…
ملكتم السلطان ولكن الذلّ والعبودية كانت لكم عنوان…
ضاعت العزة والكرامة وحلّ محلها الذلّ والهوان…
كان اليهودي عنوان الذلة والمسكنة فجعلتموه سيد المكان…
هدم أسلافكم الأصنام والأوثان ونسيتم الله وروح الأديان…
عرفكم الله حق المعرفة ووصفكم بما أنتم يا عربان والأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً…
شعوبكم تئنّ من الفقر والجوع وفقدان الرعاية والحنان…
الأجنبي يقودكم ويراكم كما يرى العبد والحيوان…
إلامَ الذل يبقى في نفوسكم بدل الكرامة والعنفوان…
لقد اتقنتم فنّ السمسرة والعمالة وبيع الوجدان…
لقد صدق فيكم جبران خليل جبران حينما وصفكم فقال:
ويل لأمة تنصرف عن الدين الى المذهب أما هكذا انتم اليوم ؟
ويل لأمة تكره الضيم في منامها وتخنع اليه في يقظتها اما هكذا انتم اليوم… ؟
ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا سارت وراء النعش، ولا تفاخر إلا إذا وقفت في المقبرة، ولا تتمرّد إلا وعنقها بين السيف والنطع… أما هكذا انتم اليوم… ؟
ويل لأمة سياستها ثعلبة وفلسفتها شعوده… أما هكذا انتم اليوم ؟
ويل لأمة تقابل كلّ فاتح بالتطبيل والتزمير ثم تشيّعه بالفحيح والصفير لتقابل فاتحاً آخر بالتزمير والتطبيل… اما هكذا انتم اليوم ؟
واقول لكم: ويل لأمة حاكمها كذاب وأميرها نصاب وقادتها حُجّاب وشعوبها تحت أقدامهم كالتراب وفي سمائهم كالذباب…
ويل لأمة ينطبق عليها القول: وضربت عليهم الذلة والمسكنة ولعنوا بما فعلوا ولن تغنى عنهم أموالهم… هؤلاء الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها… وها هم اليوم… أفسدوا حياتنا…
ونختم مع نزار قباني «لا يوجد قوم اسمهم عرب»…