المنطقة العازلة التركية حلقة من خيبات أردوغان في سورية
العميد د. أمين محمد حطيط
حلم أردوغان يوماً وبعد أن استتب له الأمر في سدة رئاسة الحكومة التركية وتمكنه من تقليم أظافر الجيش وخلع أنياب معارضيه في الداخل التركي، حلم باستعادة مجد بني عثمان والعودة لإقامة الإمبراطورية العثمانية الجديدة، يحدوه في ذلك مشهد إقليمي يغريه بالانطلاق ميدانياً في تحقيق هذا الحلم، وبشكل خاص بعد أن اندلعت شرارة العدوان على سورية تحت تسمية «ثورة» وتقدم «الإخوان المسلمين» الذين ينتمي إليهم ويعتمد عليهم لإحياء الإمبراطورية الإسلامية العثمانية، تقدمهم لقيادة هذه «الثورة الكذبة» من أجل وضع اليد على سورية والانطلاق منها لتحقيق هذا الحلم باعتبارها الممر الإلزامي للمشروع.
كان أردوغان يظن، بأن مشروع الإخوان المسلمين الذي يقوده هو عملياً، والذي عقد صفقة مع الغرب لتأمين بقاء «إسرائيل» آمنة ومطمئنة في فلسطين التي اغتصبتها، هو مشروع مؤكد النجاح لاستناده إلى منظومة قوة رباعية الأبعاد متشكلة من دعم أطلسي بقيادة أميركية وهيكلية تنظيمية مترامية على مساحة العالم العربي، ومال خليجي قطر بصورة خاصة وفير ومنظومة إعلامية فاعلة قادرة على خوض حرب نفسية توفر فرص تحقق «الانجازات الميدانية النظيفة» من غير نزال.
ومع هذا الحلم والمشروع الإخواني، انطلق أردوغان رافعاً الصوت الأوقح في العدوان على سورية مانحاً نفسه الحق بتوجيه الأوامر والتوجيهات لتنصيب الإخوان في مقاعد الحكم، واقتحم الجامعة العربية وصيرها جزءاً من أدواته التنفيذية أيضاً، وراح يتصرف «كقائد موجه» في الإقليم، معتبراً أن على الآخر الانصياع له، كيف لا وهو السلطان العائد لحكم المنطقة وإقامة حكم الإسلام على النهج الإخواني الذي ابتدع وتمت رعايته من قبل الاستخبارات البريطانية قبل نيف وثمانية وعقود.
لكن الميدان السوري كذب آمال وتوقعات أردوغان وأقرانه الإقليميين وأسياده الأطلسيين، حتى أجبر أوباما على الاعتراف بأن الرهان على سقوط بشار الأسد هو ضرب من الخيال، وبهذا سفه حلم أردوغان، ما استتبع سقوط المشروع الإخواني سقوطاً تردد صداه في مصر حيث استعاد الشعب المصري مدعوماً بالجيش، من الإخوان قرار البلاد وأخرجهم من السلطة ليجعلهم بين مشرد في الخارج أو نزيل في السجون أو منكفئ في الداخل أو مخطط لأعمال إرهابية ضد مصر وشعبها، بما يفرض ملاحقتهم وفقاً لما يلاحق المجرمون.
لقد استشعر أردوغان بعد 3 سنوات من العدوان على سورية الخيبة والخسران، وانكفأ إلى الداخل التركي في عملية إعادة تشكيل السلطة لامتلاك قوة مضافة ينطلق بها في هجوم جديد، واتجه إلى إقامة نظام حكم شبه رئاسي تقريباً يلزمه تعديلات دستورية كبرى حتى يكتمل ولكنه يمارس بالهيمنة والتجاوز حكماً رئاسياً بشكل عملي، ما جعله يستشعر قوة ظن أنها تمكنه من العودة إلى المسرح الإقليمي بفعالية، ويعوض إخفاقاته في سورية التي كان آخرها ما حصل في جيب كسب، إذا بذل أردوغان جهده في امتلاك السيطرة عليه بيد إرهابيي النصرة، فسحقت المحاولة تحت أقدام الجيش العربي السوري.
وفي سياق تقاطع المصالح الأميركية- التركية، اتجه أردوغان مع أميركا إلى العراق متوسلاً المنتج الإرهابي الأميركي المسمى «داعش» ونفذ «مسرحية الموصل الداعشية» فأحدث خرقاً صاعقاً في الميدان العراقي، وأنتج بيئة إرهابية في المنطقة تمددت إلى حدود لبنان في عرسال في شكل أوقع الكثير بالفخ فظنوا أن «داعش» هي قوة كونية عظمى تستلزم حرباً كونية لاتقاء خطرها، أما الحقيقة فهي أن هذا التنظيم الإرهابي هو واحد من عدة تنظيمات إرهابية تفرعت من «القاعدة» ولا تختلف في القوة كثيراً عن سواها إلا أنها أحيطت بهذه الهالة ومنحت هذا الدعم لأن المعنيين احتاجوها كقناع لإخفاء تدخلهم العسكري المباشر في سورية والعراق، تدخل ترجم أميركياً بإنشاء التحالف الدولي ضد «داعش» وتركيا بالتحضير لإقامة «منطقة عازلة» تحت سيطرة الجيش التركي، وهو ما لوحت به تركيا أكثر من مرة وفشلت في تنفيذه.
وإذا كان التحالف الدولي الأميركي بات مكشوف الأهداف والمناورات وقلنا فيه الكثير، خصوصاً أنه ليس لمحاربة «داعش» بل لتدمير البنية التحتية السورية ومنع سورية من استثمار انجازاتها وبطولات جيشها، فان المشروع التركي الجديد يطرح علامات استفهام حول مداه والقدرة على تحقيقه وتداعياته.
بداية تجب الإشارة إلى أن التحالف الدولي لمواجهة «داعش» أحرج ظاهراً تركيا بعض الشيء، لأنها لا تستطيع البقاء خارجه ولا تستطيع الانخراط فيه وفقاً لأهدافه المعلنة لجهة تدمير «داعش» في العراق وتحجيمها في سورية ما يعني حرمان تركيا من الأداة التي تتخذها وسيلتها للحرب البديلة التي تشنها على العراق وسورية، ولم يكن الخروج من الإحراج ممكناً وفقاً لتقدير أردوغان إلا بإسقاط القناع والانتقال من الحرب البديلة إلى الحرب الأصيلة وتحقيق ما تريد في شكل مباشر بواسطة قواتها العسكرية، عند ذلك لا تخشى الانضمام إلى التحالف طالما أنها ستكون مطمئنة إلى مآل حركتها في تحقيق مصالحها. لذا اتخذ أردوغان عنواناً لحربه العدوانية الجديدة ما اسماه إقامة المنطقة العازلة في الشمال السوري بعمق وصل إلى 40 كلم، وبجبهة تتراوح بين 180 و200 كلم تصل إلى مشارف ريف حلب الشرقية، وتكون شاملة معظم المنطقة السورية التي يقطنها الأكراد، وتلامس حدود بحيرة الأسد على مجرى الفرات شمال الرقة.
ومن الطبيعي أن تستلزم إقامة هذه المنطقة تدخل قوات تركية برية، لذلك استحصل أردوغان على الترخيص بذلك من مجلس النواب التركي، كما يستلزم حشد تأييد دولي أو عدم ممانعة على الأقل لإفساح المجال أمام القوات التركية بالعمل من دون عائق ومن دون تهديد جدي وبعيداً عن مخاطر الفشل والخسارة، ولهذا تخوض الدبلوماسية التركية معركة اتصالات مكثفة في الأمم المتحدة وخارجها للحصول على ذلك.
ترى تركيا أن إقامة المنطقة العازلة المزعومة، ستعوض خسارتها الاستراتيجية الكبرى الناجمة عن سقوط مشروع الإخوان، وضياع فرصتها في تحقيق الهدف الاستراتيجي التركي الأساسي بإلحاق سورية بالفضاء الاستراتيجي التركي، منطقة تتيح لها:
امتلاك ورقة ميدانية سياسية تحجز لها مقعداً مؤثراً في أي حل مستقبلي للقضية السورية وتمكنها من المشاركة الفاعلة في رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط بما يحفظ لها إمكانية المحافظة على فضائها الاستراتيجي الذي ينافسها فيه وبأرجحية كل من السعودية وإيران.
إسقاط الخطر الكردي المنبعث من الشمال السوري والقابل للتفاقم ضد وحدة تركيا ومصالحها المهددة بنزعة الأكراد الاستقلالية أو الحكم الذاتي.
الحؤول دون تشكل بيئة تدخل عسكري أجنبي على الأرض السورية وبمحاذاة حدودها الجنوبية خاصة مع ما يلوح في الأفق من اتجاه إلى إرسال قوات برية أجنبية إلى سورية تواكب العمل الأميركي الجوي، وهو تدخل سيستفيد منه الأكراد بالشكل الذي حصل في إقليم كردستان العراق.
الحؤول دون مواصلة الجيش العربي السوري إنجازاته الميدانية التي يستعيد بمقتضاها السيطرة في شكل متدرج على المناطق التي أفسد الإرهاب أمنها.
إعادة الحياة إلى ما يسمى «المعارضة السورية» العاملة بإمرتها والتي باتت دمى منسية تتسكع في أزقة اسطنبول، لتمكينها من الحصول على حصة في السلطة عندما يفتح ملف الحل السياسي للأزمة السورية، لأن تركيا ستنقل هذه الدمى إلى المنطقة العازلة على غرار ما تصرفت «إسرائيل» مع لحد في جنوب لبنان.
ترى تركيا أن هذه الأهداف تستحق المغامرة أو المجازفة باجتياح قواتها العسكرية لمساحة تتجاوز الـ 8000 كلم2 لكن هل تستطيع النجاح في ذلك؟
إذا أجرينا تحليلاً للمشهد الإقليمي والدولي الراهن، فإننا نصل إلى الاستنتاج بأن الحلم التركي هو من فصيلة الأحلام التركية العقيمة، وأن الخطة التركية الجديدة هي من طبيعة الخطط التركية الفاشلة التي تأتي بنتائجها عكسية، فهي متجانسة مع سياسة صفر مشاكل التي انتهت إلى واقع صفر صداقات في الإقليم، ومتجانسة مع حلم سيطرة الإخوان على سورية، فانتهى إلى خروج الإخوان من المشهد المؤثر في استراتيجيات المنطقة. نقول ذلك لأن دون الحلم التركي الجديد عوائق ليس أقلها:
رفض سورية القاطع ومعها محور المقاومة وفي طليعته إيران، التي لا يمكن أن تسمح باجتياح تركي للأرض السورية، والتي ستجد نفسها ملزمة بعمل ما يلزم لمنع تحقيق هذا الاجتياح.
الرفض الروسي لأي دخول تركي عسكري إلى الأرض السورية مع احتمال ترجمة الرفض في شكل عملي يعيق العمل التركي أو يقلب الطاولة في المنطقة برمتها.
الموقف الغربي الأميركي، الذي لا يسمح الآن لأي فريق إقليمي أو دولي بالعمل في سورية مستقلاً عن الخطة الأميركية أو امتلاك أوراق يستأثر بها من دون إذنه.
مقاومة كردية للمشروع التركي الذي يطيح بأحلام تاريخية للأكراد ليس في سورية فحسب بل في تركيا أيضاً.
رفض تركي داخلي للانزلاق في صراع عسكري مباشر في حرب إقليمية أو نار إقليمية لا يعرف أفق لنهايتها.
بين الأهداف والعوائق المانعة من تحقيقها يبقى السؤال المطروح حول السلوك التركي، فهل تتعقلن تركيا وتوفر على المنطقة نيراناً إضافية، أم أنها سترتكب الحماقات التي تشعل نيراناً تكون هي في طليعة من يتلظى بها؟… الأسابيع الأربعة المقبلة ستحمل الإجابة كما نعتقد والتي لا نستبعد أن تكون فيها حماقة تركية على رغم انخفاض مستوى الاحتمالات فيها.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية