لماذا باع المستثمرون بالإرهاب «الإرهاب» في عرسال؟!
د. وفيق إبراهيم
التحضيرات السياسية العسكرية المتنوّعة للقضاء على التجمعات الإرهابية في بلدة عرسال وجرودها حتى الجهة المقابلة من الحدود السورية، تكشف أنّ هذا الإرهاب أصبح حِملاً ثقيلاً على حماته ورعاته المحليين والعرب والدوليين. الأمر الذي يشير إلى استنفاد الفائدة المرجوّة منهم، فلماذا الإبقاء عليه إذاً؟
لمعرفة هذه الأسباب، يجب تحليل الدور الذي أدّاه هذا الإرهاب في منطقة عرسال وجوارها، وربطه بالمتغيّرات التي طرأت على أوضاع الداخل السوريّ واللبناني.
لقد تسلّل الإرهاب إلى هذه البلدة اللبنانية بعد أقلّ من عام من بدء «الحرب الكونية» على سورية منتشراً في جرودها ومستوطناً البلدة بمعونة بعض المتورّطين من أبنائها، حاشداً بضعة آلاف إرهابي قتلوا عدداً من أهل البلدة وأبناء القرى المجاورة وهاجموها. وشكّلوا قضاءً خاصاً لهم بموجب الفقه الوهابي مؤسّسين محكمة تملك كلّ الصلاحيات بما فيها حقّ القتل والحرق والسبي، حتّى أنّهم في يوم استيلائهم على عرسال خطفوا وقتلوا جنوداً من الجيش اللبناني ينتمون إلى المذاهب والطوائف كلّها بشكل همجيّ، مشكّلين إرهاباً وحشياً جمع بين الـ»داعشي» و»النصرة» والمتخرّج من «القاعدة» والإخواني والتكفيريين من المخيمات الفلسطينية والتابعين إلى مجموعات لبنانية متشدّدة في الشمال وقلّة من «العراسلة».
وما حال دون تحرير عرسال من هذا الوباء، كان «الحظر» الأميركي السعودي المرتكز على القوى اللبنانية الموالية للرياض وأنقرة. هؤلاء وصلوا إلى التهديد بـ «الفتنة السنّية الشيعية إذا «تحرّرت عرسال». والدليل موجود في خطابات مشايخ الإرهاب في الشمال والسياسيين من أمثال فتفت والمرعبي والضاهر وتحذيرات الحريري والقوّات اللبنانية ومسيحيين «مستقلين». هذا ما حمى الإرهاب، لأنّ المرجوّ منه شكّل العديد من الأهداف: أولاً، عرقلة حركة حزب الله من لبنان إلى سورية وبالعكس. ثانياً، جذب كميات من الجيش السوري إلى نطاق عرسال السوري لمنع تحشّده في مناطق أخرى… وعلى قاعدة أنّ هناك حظراً «فيتو» عربياً أميركياً دولياً على أي هجوم على البلدة.
هناك هدف ثالث يتعلّق بتوتير العلاقات السنّية الشيعية في لبنان، وشحن جمهور في الشمال وبيروت والبقاع، ليصبح مستعداً في كلّ لحظة لتفجير الداخل بذريعة الاعتداء على عرسال السنّية. كان المطلوب إذاً في سيطرة الإرهاب على هذه البلدة «رأس حزب الله». فماذا فعل الحزب؟
نجح في كسر الإرهاب في معظم القلمون السوري، فاتحاً طريقه بحربات كبيرة وواسعة، ما ضيّق الخناق على الإرهاب وليس العكس. ونجح الحزب في تقليص تأثيره إلى الحدود الدنيا، مجهضاً حركة الفتنة السنّية الشيعية بالتدابير التالية: أدار حملة ترشيد مساعدات لدى العائلات البعلبكية التي استهدف الإرهاب أبناءها بالقتل، منبّهاً إلى مدى خطورة الثأر والانتقام في هذه الظروف المشجّعة على الفتنة الداخلية، ومركّزاً على حماية القرى المسيحية. ونجح في إجهاض ردود الفعل الشعبية، إلى جانب نجاحه بتطويق عرسال مع الجيش اللبناني.
ولم تعطّل هذه الجهود المبذولة حركة الحزب العسكرية في سورية، بل كان ولا يزال رأس حربة المعارك المظفّرة من درعا إلى تدمر وحلب حتى حدود دير الزور والرقة والحدود مع الأردن والعراق… بموجب شهادات الإعلام الغربي.
أمّا بالنسبة إلى قراره بسحب قواته من عرسال اللبنانية إلى حدودها مع سورية، كما أعلن سيد المقاومة قبل شهر ونيّف، فشكّل استيعاباً سياسياً عالي المستوى لما يجري في سورية ولبنان.
لقد أدرك الحزب أنّ الانتصارات التي أنجزها تحالفه مع الجيش السوري وروسيا وإيران وتنظيمات شعبية أخرى، من شأنها إلغاء وظائف الكثير من بؤر التكفير في الجغرافيا اللبنانية السورية وأوّلها عرسال، لاستنفاد الوظائف. لذلك أعلن مسبقاً الانسحاب منها ممتصاً الهجمات المحتملة من القوى الطائفية على دوره انطلاقاً من لبنان، معطّلاً أي تحشيد داخلي ضدّه لانتفاء الأسباب، وتاركاً للجيش اللبناني مهمة تحرير عرسال انطلاقاً من المناطق اللبنانية بمساحة 250 كيلو متراً مربعاً، على أن يتولّى الحزب مع الجيش السوري ضرب الإرهاب في ما تبقّى من مساحة انتشاره على مدى مئة كيلو متر مربع في الجانب السوري قبالة البلدة.
لجهة الجيش السوري، فلم يكن بدوره غائباً عن الأهداف المخطط لها، وبواسطة نفر قليل من رجاله طوّق المنطقة السوريّة المقابلة لعرسال، متابعاً استعادة حلب والبادية وتدمر وحدود دير الزور والرقة ومعظم أرياف دمشق والتنف وحمص وحماة، محرزاً 23 ألف كيلو متر مربع، ما يعني أنّ عرسال فشلت في تقليص اندفاعات جيش سورية.
هناك أسباب إضافية لا بدّ من ذكرها، وتتعلّق بنجاح حلف حزب الله والتيّار الوطني الحر في تأمين «وضع سياسي سوري» أدّى إلى وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وبذلك خسر المحور السعودي التركي مناخاً مسيحياً كان موالياً للفريق اللبناني السعودي الهوى في مرحلة ميشال سليمان، الأمر الذي أتاح إعادة تكوين موقف سياسي مسيحي معادٍ للإرهاب يريد إعادة الإمساك بالدولة فارضاً تراجعات على المسيحيين المستقلّين والقوّات اللبنانية، مع تأمين مساواة بين الطوائف استباحها منذ 1995 الفريق المحلي الموالي للخليج والمستثمر بالإرهاب.
لذلك تزوّد الجيش اللبناني بجرعات دعم سياسية من رئاسة الدولة، معاديةً الإرهاب الذي يستهدف الوحدة الوطنية. هناك أسباب إضافية لا يجوز تجاهلها حتى ولو كانت من خارج المحور اللبناني السوري، فدولة «خلافة داعش» استمدّت زخمها من السيطرة على معظم سورية والعراق، لكنّ أوضاعها اليوم تمرّ بانهيار شديد بعد تحرير الموصل واسترجاع معظم العراق، باستثناء بعض البؤر الصغيرة.
هذا الوضع أدّى فوراً إلى تخلّي الأميركيين والسعوديين عن الاستثمار في الإرهاب الـ»داعشي»، داعين إلى قتاله بالسبل والإمكانات كلها، لأنّه أصبح حملاً ثقيلاً لا يؤدّي الوظائف المأمولة منه، ولا بدّ أنّ هؤلاء الداعمين تساءلوا عن وظيفة الإرهاب في عرسال بعد حدوث هذه المتغيّرات العسكرية والسياسية، فبدلاً من دور توتير الأوضاع في لبنان وسورية، تحوّلت منطقة عرسال إلى منطقة محاصرة لا يستطيع حماتها تمرير مؤن بسيطة إليها إلا بصعوبة بالغة. وأصبحت بحاجة لمن يدافع عنها بدلاً من أن تحاصر هي الآخرين.
إنّ مجمل الأسباب المذكورة أدّت إلى تخلّي الداعمين الأساسيين عن البؤر الإرهابية في البلدة. وللمحافظة على المعنويات، ابتدأ هؤلاء الداعمون المحلّيون بإطلاق مواقف تحذّر حزب الله من المشاركة في الهجوم، علماً أنّ الحزب أعلن منذ شهر انسحابه إلى داخل الأراضي السوريّة، ولم يعد يريد إدارة المعركة من لبنان. أمّا عرسال التي أعلن الجيش اللبناني عن البدء بعملية تحريرها، فقد باعها المستثمرون بعدما ورّطوا أهلها بعلاقات ثأر واحتراب مع الجوار الذي لن ينجرّ بالطبع إلى مواقع تريدها السياسات المحلّية والدولية.
لذلك، فإنّ القوى المحلية والإقليمية لم تشجّع أهالي عرسال على التعاون مع الإرهاب حرصاً على سلامتهم، بل خدمةً لمشاريع تدمير المنطقة ونسيجها الاجتماعي والاستسلاملـ«إسرائيل» والنفوذ الغربي. وهكذا يترقّب الوطن بأسره عودة عرسال إلى لبنان في إطار خطة تحصين وطنية تمنع هذا الوباء من العودة إلى البلاد، وتتيح انكساره في كامل المشرق العربي.