أنطون سعاده ماذا فعلت: استشهدت فأحييت الفكر والوطن والإنسان سجنونا وقتلونا لننكرك فازداد تعلقنا وإيماننا بك وبعقيدتك
اياد موصللي
استشهد الزعيم.. حُلّ الحزب وطورد أعضاؤه وامتلأت السجون.. نحن موقوفون ننتظر محاكمتنا لا نعرف ما هو مصيرنا وماذا نفعل؟ هل ننهار… هل نتوسّل… لكي ننقذ أنفسنا؟ ماذا بعد… زعيم قتلوه وحزب حلوه… فماذا بقي لنا؟
حدّد لنا موعد المحاكمة في يوم 16/7/1949 أيّ بعد ثمانية أيام من استشهاد الزعيم… قبل يوم من المحاكمة في 15/7/ اجتمعنا كلنا وتحدثنا عما يمكن أن يجري غداً في المحكمة… وضعنا خطة ليلتزم بها كلّ رفيق ولا يخرج عنها.. ثم طرحنا السؤال ماذا لو طلبت المحكمة منا أن نعلن انسحابنا من الحزب ثمناً للإفراج عنا وإطلاق سراحنا؟
قرارنا كان أخذ الحذر وإذا طلب منا هذا الأمر نجيب انّ الحكومة قد حلت الحزب.. أما إذا أصرّت المحكمة على أخذ موقف صريح منا.. فسنرفض ولو كانوا سيحكمون علينا بالإعدام ولن نحيد عن طريقنا ولن نغدر او نخون قضيتنا ولن نخذل الحزب ولن نخون الزعيم… وأقسمنا على ذلك.
كنا نعيش في قاووش سجننا مجتمعاً قومياً اجتماعياً مصغراً تسوده المحبة والإخلاص.
الرفيق عباس حماد يقوم بيننا مقام الأخ الكبير والوالد يسهر على تأمين سبل الراحة وسدّ الحاجة مما يتوفر، وكنا نبادله المحبة والاحترام والحبّ بالحبّ، كنا مجتمعاً مثالياً مصغّراً، صغيرنا لكبيرنا مُجلّ وكبيرنا لصغيرنا محب.
اليوم هو الخامس عشر من تموز وغداً هو موعد محاكمتنا، أمضينا اليوم بالمسامرة والتسلية والمرح وكأننا ذاهبون غداً إلى حفل اجتماعي. مساء تجاذبت وعباس حماد الحديث وتطرّقنا للمحاكمة في اليوم التالي، فقلت انني أتوقع أن أحكم بالإعدام لأنني الوحيد الباقي ممّن حمل المسؤولية بتكليف من الصدر عساف، ضحك وقال انّ أكبر حكم علينا لن يتعدّى الستة اشهر وبدأ يحدّثني عن المستقبل وخططه بعد خروجه من السجن فقال إنه سيتزوج ويشتري سيارة لتكون مصدر عيشه ووالدته وإخوته.
اليوم هو 16/7/ موعد محاكمتنا، استيقظنا باكراً واستعدّينا للذهاب. جاء ضابط ونادانا بالأسماء فخرجنا إلى باحة السجن حيث شاهدنا بقية الرفقاء ووضعت في أيدينا السلاسل الحديدية كلّ ثلاثة معاً، وأركبونا سيارات مقفلة وكلّ ثلاثة منا أولج بحراستهم دركي مسلّح. سارت شاحنتنا وخلفها سيارتا جيب تقلان جنوداً مسلحين ساقونا إلى المحكمة العسكرية وكانت محاطة بقوات كبيرة من الجيش والدرك والشرطة، أدخلونا القاعة في تمام الساعة السابعة صباحاً، جلسنا في قفص الاتهام على مقاعد، وفي تمام الساعة الثامنة حضرت هيئة المحكمة وكانت مؤلفة من المقدّم أنور كرم رئيساً، القاضي غابريل باسيلا، النقيب طانيوس سمراني، النقيب عزيز الأحدب، الملازم أول أحمد عرب، ومثل النيابة العامة القاضي يوسف شربل. غصت القاعة بالمحامين والصحافيين والزوار، افتتحت الجلسة ووقفنا جميعاً ثم جلسنا حيث بدأ بتلاوة محضر الاتهام وكان أول مستجوَب هو سعيد حماد الذي أجاب على كلّ الأسئلة الموجهة إليه.
واعترف انه ذهب إلى مشغرة وأنكر معرفته بأيّ من الموقوفين وقال له رئيس المحكمة ستلقى عاقبة إنكارك هذا، ونودي من بعده على الرفيق محمد شلبي فاعترف انه ذهب إلى مشغرة وسئل عن خطاب الزعيم فقال: قال لنا اذهبوا وحاربوا الصهيونية ورعاتها من الحكام الخونة والمتآمرين على البلاد وأشار بيده إلى هيئة المحكمة، فقال له رئيسها ستندم. ثم سئل عمّن كان معه في مشغرة فقال: عبد الهادي حماد. وسئل من غيره فقال فايز زبن، وكان هذا الكلام هو ما تمّ الاتفاق عليه بين بعضنا البعض بأن يعترف قسم منا عن نفسه بإخفاء الآخرين، ثم نودي على الرفيق نائل نديم وسئل عن مكان وجوده ساعة الهجوم على مشغرة باعتبار انّ نائل كان يحمل بندقية، فقال: كنت في الطاحون، وسئل مع من فقال: إياد موصللي وسعيد العظم ونبيه شمس الدين، وكانت مهمتنا حراسة القوميين الذين هم معنا ولا يحملون أسلحة، هنا طلب منا رئيس المحكمة الوقوف فوقفنا، سألنا رئيس المحكمة من كان معكم في الطاحون؟ وكانت غايته ان يعرف من كان في الطاحون ليعرف بالتالي انّ من لم يكن معنا فقد ذهب إلى مشغرة ولكننا أحسسنا بخطته فقلنا هؤلاء وأشرنا إلى الموجودين باستثناء الذين اعترفوا عن أنفسهم، هنا نادى رئيس المحكمة على ابراهيم صيداوي وسأله عن مكان وجوده فقال: في الطاحون، سأله الرئيس بعد أن أشار بيده إلينا نحن الأربعة من كان قائدكم بينهم فقال ابراهيم: إياد موصللي، هنا حدثت همهمة بين القوميين الموجودين استياء من هذا الاعتراف لكن الرفيق ابراهيم لم يكن يقصد سوءاً بل حصر المسؤولية حماية للآخرين حسب ما اتفقنا عليه، هنا قام فوراً محاميّ فوزي البردويل وقال لرئيس المحكمة أرجو ان تسأل موكلي عن عمره فسألني الرئيس ما هو عمرك؟ فأجبته 17 سنة استغرب وحدث جدل بينه وبين المحامي تقرّر على اثره إحالتي إلى لجنة طبية فورية من ثلاثة ضباط، حضرت اللجنة ونقلوني إلى غرفة جانبية وفحصوني فحصاً بيطرياً فتحوا فمي وتفحّصوا أسناني ولمسوا ذقني وقدموا بعدها تقريراً يقول انّ عمري 16 سنة وتسعة أشهر وأعتقد انّ عمري هذا أبعد عني حكم الإعدام لأنني حدث والقانون يمنع إعدام الأحداث ويقضي بسجنهم في الإصلاحية.
كان جوّ المحاكمة إرهابيا. جند مدجّجون بأسلحتهم. خلفنا ورئيس المحكمة لسانه لم يتوقف عن الشتائم والتهديد. كثيرون منا لم يستجوبوا ولم يسمح لهم بالكلام. كنا ثلاثة وستين شخصاً حوكمنا وحكم علينا خلال ستة عشر ساعة فقط تخللتها ثلاث استراحات، ولو كنا غنماً في مسلخ لاستغرق ذبحنا فترة أطول وتركت لنا فترة للمواء. لم نر رفقاءنا بعد ذهابهم للمحكمة شهوداً أثناء استجواب الزعيم إلا في قاعة المحكمة. في فترة الاستراحة كنا نتحدث مع بعضنا، سألتُ الرفيق محمد شلبي عما جرى معهم بعد أخذهم من عندنا وعدم إعادتهم فقال لي: أخذونا إلى المحكمة العسكرية حيث كان الزعيم فقلت لهم: «نيالكم شفتوه، كيف كان؟» فقال مثل ما هو بطل فوجئنا به وقد نظر إلينا وابتسم وهتفنا بحياته وحياة سورية وقصّ عليّ ما سبق وأشرت إليه قبلاً.
بعد انتهاء المحاكمات أخليت القاعة وخرج القضاة للمذاكرة ولما عادوا تليت الأحكام. وكانت الأحكام الإعدام والسجن، لم يصدر عن أيّ واحد منا أيّ اهتمام أو تعليق تقبّلنا الأحكام بشجاعة، حتى انّ رفيقنا محمد الزعبي وهو من رجال عشيرة الزعبي في درعا بسورية استغرب ان نحكم بالإعدام ونحن نعمل للوطن ومن أجل الأمة فقال باللهجة البدوية «وال وال وبعدين يعدمونا؟» أخذوا رفقاءنا المحكومين بالإعدام وهم: 1 ـ يوسف قائد بيه، 2 ـ مصطفى سعيد ملاعب، 3 ـ أديب سمعان الجدع، 4 ـ معروف محمد موفق، 5 ـ خليل يعقوب الطويل، 6 ـ محمد ابراهيم الشلبي، 7 ـ محمد أحمد الزعبي، 8 ـ فايز فهد الزبن، 9 ـ عبد الحفيظ حسن علامة، 10 ـ نصير صالح ريا، 11 ـ سعيد عبد الرؤوف حماد، 12 ـ عباس عبد الرووف حماد. وعزلوهم عنا ونقلونا نحن إلى القواويش.
دخلنا القاووش وتلقانا من فيه بالودّ واللطف ثم مددنا البطانيات في وسط الغرفة ونمنا بجانب بعضنا.
بعد ثلاثة أيام وبتاريخ 19/7/1949 وفي الساعة الثالثة صباحاً استيقظت على يد تنكزني بهدوء رأيت السجين محمد المغربي الذي أشار إليّ بالنهوض وكان يقف بجانبه عدد من السجناء تجمهروا قرب باب الغرفة ينظرون من الشراقة عبر مرآة صغيرة يمدّونها وينظرون من خلالها إلى ما يجري في الجانب الآخر، توجّهت نحوهم وكان السجناء يعرفون انّ عبد الهادي له شقيقان محكومان بالإعدام لذلك حرصوا على الهدوء كي لا يشعر، نظرت في المرآة فوجدت بعض رفقائنا المحكومين بالإعدام ينقلون من زنزاناتهم تمهيداً لأخذهم إلى مكان تنفيذ الأحكام، وأفسح لي السجناء للنظر فرأيت كاهناً وشيخين وشيخ درزي وعدد من رجال الدرك يقفون في الممرّ وبعد قليل فتحت أبواب الانفرادات… شاهدت الرفقاء محمد شلبي ومعروف موفق وعبد الحفيظ علامة ومحمد الزغبي الذين أمضوا عدة دقائق مع رجال الدين ثم أخرجوهم من البناية مكبّلي الأيادي فمشوا بخطوات ثابتة طبيعية ولم أعد اراهم فأدركت انّ آلة القتل قد تحرّكت وانّ رفقاءنا سيكونون ضحاياها، بقية المحكومين من رفقائنا لم أرهم لوجودهم في بناية أخرى ولكني أيقنت أنهم هم أيضاً ذاهبون لدرب الشهادة، عدت إلى مكاني دمعت عيناي وتساقطت الدموع بغزارة لا سيما وأنا أنظر إلى عبد الهادي الممدّد بجانبي وشقيقاه في ظنّي بين الضحايا، كان يغط في نوم عميق جلست في مكاني القرفصاء وبعد حوالي نصف ساعة تقريباً سمعت صوت إطلاق الرصاص من مكان قريب علمت في ما بعد انه الرملة البيضاء خلف مقابر مار الياس بطينا والمكان ليس بعيداً عن سجن الرمل في الطريق الجديدة، دوّى الرصاص وانهمرت دموعي غزيرة وكنت أخفي صوتي وحشرجتي لئلا يسمعني عبد الهادي ويعرف انّ أخويه قتلا شهيدين، لكن يبدو انّ غزارة دموعي سقط بعضها على وجهه ففتح عينيه فرآني ابكي فنهض وجلس بجانبي ومدّ يده ومسح وجهي وقال لي فوراً: لقد استشهد رفقاؤنا أليس كذلك؟ لماذا تبكي يا اياد؟ أولم تكن دماؤنا وأرواحنا فداء لعقيدتنا ووطننا؟ أولم يكن هذا طريقنا من البداية؟ أولم يسبقنا الزعيم إليه؟ وازدادت دموعي انهماراً. رجل شقيقاه يُقتلان وهو يهدّئني أنا وبأعصاب صلبة وروح عالية، ما أروع عبد الهادي حماد ورحم الله عباس وسعيد حماد. استيقظ كلّ من في القاووش من السجناء وبدأوا ينظرون إلى عبد الهادي بإعجاب وتقدير ثم قال لي عبد الهادي: نم يا رفيق إياد… هذا هو طريقنا وقد سبقنا زعيمنا اليه. آه أنطون سعاده… ماذا فعلت؟ في اليوم الثاني بدأت تصلنا من الحراس أخبار ما جرى، نفذ حكم الإعدام بستة فقط من رفقائنا اختيروا حسب التنوّع الطائفي والشهداء هم: محمد شلبي، محمد الزعبي، معروف موفق، عباس حماد، أديب جدع، عبد الحفيظ علامة. وكان رفقاؤنا الشهداء الأبطال وهم في الطريق إلى ساحة الإعدام يضحكون وينشدون «سورية لك السلام، بلادي بلادي فداك دمي…» كان عباس حماد قومياً بالفكر لم ينتمي للحزب نظامياً، فطلب من الرفيق محمد شلبي ان يؤدّي القسم الحزبي أمامه وهذا ما حصل وأقسم عباس حماد اليمين ليكون مكملاً واجباته الحزبية الدستورية. قبل استشهاده اقسم اليمين في الطريق وقال الآن سأموت مرتاح البال. أعود فأسأل: أنطون سعاده ماذا فعلت؟
هذا هو شهر تموز شهر البطولة والسخاء والعطاء هذا الشهر أرادوه ورقة نعوة لعقيدة وزعيم وتنظيم فجاء جوابها والمؤمنون بها كما قال زعيمنا: «تسقط أجسادنا اما نقوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود».