إدارة التوحُّش!
أسامة العرب
إنّ ما حدث قبل ستة أعوام، وجرت تسميته باسم الربيع العربي، لم يكن سوى فجر كاذب يعبّر عن رغبة أميركية بتفتيت الإقليمين العربي والشرق أوسطي، وإعادة تركيبهما في نظام دولي جديد قائم على صراعات الطوائف والقوميات. فالتفتت وإعادة رسم الخريطة الإقليمية كانا المآل المرجّح في هذا الجزء من العالم، أما المسارات المستقبلية التي كان من المفترض أن يتبعَها الوضع الإقليمي، والشكل المحدّد الجديد لها، فكانا بأغلبهما جملة من الصراعات والحروب وعدم الاستقرار التي لا أفق زمني لها.
لا شكّ في أنّ الولايات المتحدة هي المسؤولة عن إنبات الجماعات التكفيرية ورعايتها، هكذا قالت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، بوضوح: «نحن مَن خلقنا تنظيم القاعدة. فالتنظيم على الأقلّ في مرحلة التأسيس كان جزءاً من تصوّر أميركي هدفه الانفراد بقيادة العالم، وتأكيد نهاية التاريخ كما أشار فوكوياما». وفي مقابلة مع المجلة الفرنسية نوفيل أوبزرفاتر، قال مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر، بريجنسكي: «ما هو أكثر أهمية للتاريخ: طالبان، أم انهيار الاتحاد السوفياتي؟». وبالفعل أدخلت أميركا الاتحاد السوفياتي في حرب استمرّت عشرات السنين، أفقدتها هيبتها ومكانتها وأدّت إلى تفكّكها. وقد ألهمت هذه التجربة الولايات المتحدة وحلفاءها من أجل مواجهة أعدائهم في الشرق الأوسط، فزادوا من دعمهم لهذه التنظيمات الإرهابية، وتناسلت هذه الأجيال، حتى ظهر جيل جديد من الإرهابيين حاملي الجوازات الغربية.
وليس هنالك شكّ في أنّ انتصار محور المقاومة على المشروع الصهيوني منذ العام 2001 وإلى تاريخه، واكتشاف شعوب المنطقة زيف مقولة الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يُقهر، دفع الدول العربية والإسلامية الأخرى للتعويض عن تخاذلها الإقليمي تجاه فلسطين والقدس والأقصى، من خلال تسييد مشاعر التطرّف والكراهية والأحقاد اللادينية، والتي يواجه عالمنا في هذه المرحلة أعلى موجاتها. وبالتالي، فإنّ مشروع الفتنة المذهبية بين سني وشيعي، ما هو إلا امتداد لمكيدة الشرق الأوسط الجديد، ويندرج في هذا السياق ما نشهده من تحوّلات على الصعيد الإقليمي، وهكذا بتنا نسمع للمرة الأولى مُفاضلة بين «إسرائيل» ودول عربية وإسلامية مقاومة.
مقال شيّق وجريء نشرته «البناء» الاثنين في 21 آب 2017 للدكتور وفيق إبراهيم تحت عنوان: «لماذا لا تجابه المؤسسات الدينية الإسلامية الإرهاب فعلياً؟»، حيث تأسّف الكاتب لقيام المؤسسات الدينية الإسلامية بترويج الفكر الطائفي الذي يأبى محاربة التطرف، ثم شدّد على وجوب سحب الصفة الإسلامية من الإرهاب وإعادته إلى مؤسّسيه ورعاته الغربيين والإقليميين. وقد أصاب الدكتور وفيق في ما قال، فمن المتوجّب طبعاً دعوة سورية وإيران والعراق ولبنان ودول أخرى إلى مؤتمر يُعيد تركيز النهج الإسلامي على سكة العدالة واحترام الآخر ومعتقداته، لكن الأهمّ من ذلك يتمثل برعاية تيار وسطي من كلا الجانبين السني والشيعي ليشكل حائطاً منيعاً يحول دون دخول المتطرفين أو المندسّين إلى حواضنهما الشعبية.
هذا ويقول أستاذي الرئيس الدكتور سليم الحص أطال الله في عمره: ما أعظم الدين، وأحقر الطائفية، وأخطر أشكال الطائفية المذهبية وشتّان ما بين الطائفية والدين، فالدين يجمع على قيم سامية مشتركة، بما فيها المحبة والرحمة والأخوة والانفتاح والصدق والعفو والتسامح، أما الطائفية فعصبية، والعصبيات تتصادم إذ ينبري أصحابها إلى إلغاء بعضهم بعضاً.
كذلك، فلو أننا اقتدينا فقط بخلق الرسول الكريم الذي يقول: «إنّ مَن أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلساً أحسنكم أخلاقاً»، أو أننا اقتدينا بخلق الإمام علي الذي يقول: «خالطوا الناس مخالطة إن متّم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا عليكم»، لكنّا اليوم بأفضل الأحوال. وإننا من الذين يؤمنون بأنّ في التعددية المذهبية القائمة على الاحترام والانفتاح على الآخر نعمة تُحمَََد لا نقمة تنبَذ، إذ إنها تسمح بالحفاظ على الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، وتحول دون تمكين الجماعات الإرهابية التكفيرية من طمس جوهر الدين وحقيقة الرسالة. هذا، ونحن في منطقتنا ما عرفنا مطلقاً التمايز بين سني وشيعي إلا من وقت وصول هذه الجماعات الإرهابية لبلادنا ووقوع الشرق الأوسط تحت المظلة الأميركية. فما هو هذا الاختلاف أصلاً بين الأخوة في الدين الذين تجمعهم ديانة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد ومسجد حرام واحد وقبلة واحدة وآلاف الأحاديث النبوية المشتركة وواجب ديني بمحبة أهل البيت.
ليس هنالك أدنى شك في أنّ التأخر في معالجة ظاهرة الإرهاب، سوف يكون لها وقع سلبي جداً على علاقتنا بالدول الغربية، لا سيما بعدما امتدّت هذه الظاهرة إلى العالم الغربي، وباتوا يطلقون عليها تسمية إدارة التوحُّش. ولا غروَ بأنّ «إسرائيل» وأميركا قد عرفتا كيف تستغلان هذا التوحش لتصوّرانه أنه يمثل حقيقة الدين الإسلامي، حيث برز الحديث في الغرب عن الكراهية بين المسلمين والغربيين من جهة والعرب والغرب من جهة أخرى. وقد جاء ذلك امتداداً للأفكار الغربية التي تحدّثت عن صدام الحضارات للمفكر الأميركي صموئيل هنتغنتون، الأمر الذي دفع عدداً من المسؤولين الغربيين لإطلاق شعارات ظالمة لمجتمعاتنا، كشعار: لماذا تكرهوننا؟ وفي هذا الإطار تحوّلت صناعة التنظيمات التكفيرية، إلى صناعة كراهية تجاه المسلمين والعرب. وهذا ما ساهم بتعزيز موقف «إسرائيل» أمام المحافل الدولية، وسمح لها بالاستحصال على قبول مبدئي من الغربيين على مشروع يهودية الدولة التي تكون عاصمتها القدس. كما ساهم جزء كبير من الإعلام العربي ببث روح الكراهية بين الشعوب، وبإعطاء التنظيمات التكفيرية صبغة مذهبية وشرعية ضمنية، وفي تحريف الحقائق لخلق الأزمات الفتنوية وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، حتى بات من الممكن وصفه بالإعلام الفتنوي. وقد وجد بعض القادة والمسؤولين العرب ضالّتهم في هذا الإعلام الفتنوي، فزادوا دعمهم المادي له بشكل كبير، حتى باتت ميزانيته أشبه بميزانية دولة صغيرة. وعلى أساس هذه الدائرة المفرغة من العوامل المحفزة للكراهية، نمت الأنماط السلوكية الداعمة لها، وسط غياب روح التسامح والسعي لاستيعاب الآخر.
نحن ندرك أنّ المؤامرة كبيرة جداً، والمتآمرين يعملون ليل نهار لتعطيل أية جهود تُبذل لتدارك الفتن في بلادنا، لكن الواقع ينبغي ألا يُحبِط عزيمتنا في البحث عن سبل لاجتثاث الإرهابَين الصهيوني والتكفيري من منطقتنا، وهما سيّان بنظرنا. ونحن نستهجن أيّ انفتاح عربي أو إسلامي على العدو «الإسرائيلي»، ونستهجن أيضاً التقارب الحاصل معه في أحلك الأوقات وأمرّها. وخصوصاً، في الوقت الذي تُهوّد فيه المقدسات والقدس، ويُؤسَر فيه الأطفال والنساء لعشرات السنين، وتُهدَم فيه البيوت على رؤوس قاطنيها. ولذلك، فبقدر ما تكون الحرية والكرامة ضرورية، بقدر ما تكون المقاومة واجباً أخلاقياً ودينياً، وهنا يتلاقى البعدان الوطني والأخلاقي مع البعد الديني، وينكشف زيف المتآمرين، وتسقط مشاريع الفرز الفئوي ومخططات الاستعمار «الإسرائيلي».
وأخيراً، ألا يحق لنا أن نسأل: لماذا لا تتحمّل الإدارة الأميركية وحلفاؤها المسؤولية الحقيقية عن رعايتهم للتنظيمات الإرهابية؟ ولماذا لا ينزعون الصفة العنصرية عن دولة الاحتلال؟ ولماذا يتجاهلون أنّ مقاومة الاحتلال ليست إرهاباً؟ ولماذا لا يضعون حداً لبناء المستعمرات في القدس والضفة وحداً لتهويد الأقصى؟ ولماذا لا يطالبون بنزع السلاح النووي «الإسرائيلي»؟! الرهان يبقى معقوداً على صحوة شعبية تعيد الاعتبار لإعلاء كلمة الحق، ولا شيء غير الحق، مهما بلغت التضحيات وعلت الصعوبات، فلنجرّب سلاح الصحوة ولو مرّة واحدة…
محام، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً