«عين خفشة» لرجاء بكريّة… إعادة الحاضر إلى أوّليات النكبة
سامح خضر
«لبيبة» التي تتحوّل هنا من مجرّد ساردة للحدث إلى ممثّلة لجيل سيحمل لاحقاً، ولعقود طويلة، صخرة «سيزيف» الاحتلال، صخرة كلّما بذلوا جهد الصعود بها، نحو الخلاص، يعرقلهم الاحتلال ويعيدهم إلى الكَرَّة الأولى من جديد، أسفل الجبل.
«ماذا تعني المخيّمات؟ هل تقصد تلك التي تنظّم فيها الأعراس وتوزّع فيها الحلوى؟»، استفسار صغير يأتي على لسان الطفلة الراوية لأغلب أحداث رواية «عين خفشة» 2017 للروائيّة رجاء بكريّة. استفسار يشير إلى التباس في إدراك الفرق بين «مخيّم» اللاجئين و«خيمة» الأعراس التي اعتاد الفلسطينيّون إقامتها لاستقبال الضيوف والمهنّئين.
يحيل هذا الالتباس القارئ إلى صيرورة الإدراك والحصيلة المعرفيّة لدى أطفال فلسطين، الذين باتوا يدركون الفرق بين المفردتين من دون التباس يذكر، لفرط ما عايشوه من مشاهد تجربة اللجوء، وتوزّع مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في أكثر من مدينة فلسطينيّة، وفي أكثر من بلد عربيّ.
ربّما يمرّ البعض مروراً عابراً بجملة كهذه في رواية ما، لكنّ الناظر إلى التجربة الفلسطينيّة وامتداداتها الإنسانيّة، والمعايش لها، يتوقّف أمامها كثيراً، وينظر بعين الأسى إلى ما كنّا عليه في غابر الأيّام، وما أصبحنا عليه في يومنا هذا، بدءاً من إدراك الفرق بين الكلمتين، وانتهاءً بما لا يبدو أنّ له نهاية تلوح في الأفق، الاحتلال.
لا يمكن القول إنّ رواية «عين خفشة» رواية تاريخيّة تقليديّة، تقوم على البحث في سجلّات أو وثائق قديمة، لتسليط الضوء على مرحلة تاريخيّة ما في حياة الشعب الفلسطينيّ، بقدر كونها رواية تعيد الحاضر الفلسطينيّ إلى النكبة من أوّلها، إذ تعيدنا إلى المرّات الأولى التي ظهرت فيها كلمات باتت معتادة اليوم: النكبة، والخيمة، واللحم المحترق، والغياب، والسجن، والبندقيّة، والجنود، والحصار، والمنطقة العسكريّة، والتهجير، والعودة، ووكالة الغوث، والصليب الأحمر، وبطاقة المؤن، وغيرها من المفردات التي قد تكون طارئة في حياة الشعوب، يعودون بعدها إلى حياتهم الطبيعيّة، إلّا أنّها ما زالت مستمرّة، تتوارثها أجيال مختلفة كما يتوارثون متعلّقاتهم وممتلكاتهم عبر الزمن. ربّما أرادت الكاتبة جعلنا ندرك أنّ هذه المفردات ستكون مفردات الأجيال التي ستأتي بعد النكبة.
تأخذنا «عين خفشة» إلى السؤال الأزليّ الذي حاصر كلّ مَنْ عاد إلى التاريخ كتابةً هل كتبت رجاء بكريّة هناأدباً أم كتبت تاريخاً؟ وإذا ما فرضنا جدلاً أنّ الرواية جاءت في سياق أدبيّ أخّاذ، وبلغة عالية فيها من البلاغة الكثير، فما هو موقفها من التاريخ؟
لقد منحت الكاتبة مسؤوليّة السرد إلى الطفلة الصغيرة «لبيبة»، التي جاءت معظم أحداث الرواية، وحركة شخوصها، وتطوّر حبكتها الدراميّة على لسانها. «لبيبة» التي تتحوّل هنا من مجرّد ساردة للحدث إلى ممثّلة لجيل سيحمل لاحقاً، ولعقود طويلة، صخرة «سيزيف» الاحتلال، صخرة كلّما بذلوا جهد الصعود بها نحو الخلاص، يعرقلهُم الإحتلال ويعيدُهُم إلى الكرّة الأولى من جديد، أسفل الجبل، حيث المجازر والعقوبات الجماعيّة. الطفلة التي ليس لها أيّ يد في الماضي، ولا تحمل مسؤوليّة استشراف المستقبل، لا تستطيع سوى تمثيل الحاضر بكلّ تجلّياته وتعقيداته التي يصعب فهمهما ومعالجتها، فتقرّر أن تمنحها الكاتبة هنا دوراً جديداً، إلى جانب دورها السرديّ، وهو قدرة الشهادة على الأحداث وتخزينها في ذاكرة ستمتدّ حبالها عقوداً طويلة.
مساحة سرديّة أخرى، من دون موازاة، منحتها الكاتبة للجدّة «صبيحة»، التي بدت كمن تقف على مفترق طرق بين الماضي والمستقبل. تستدعي الجدّة الماضي لتبسيط ما يصعب فهمه وتحليله من الحاضر الصاخب، الذي لا تعوّل عليه كثيراً، وتستشرف في جانب آخر المستقبل المجهول، وكأنّها هنا لا تريد أن تعقّب على الحاضر المعقّد سوى بتعليله وربطه بالماضي أو بالمستقبل فالحاضر في نظر الجدّة لا يمكن أن يحمل تفاسيره الخاصّة، ويجب أن يرتبط بعلّة ما، أو بعاطفة ما، أو بمبرّر ما، إمّا مع الماضي أو مع المستقبل.
على مستوى الشخصيّات، وبالعودة إلى الشخصيّتين الرئيسيّتين، الطفلة «لبيبة» والجدّة «صبيحة» اللتين منحتهما الكاتبة، بطبيعة الحال، مساحة أكبر على حساب الشخصيّات الأخرى في الرواية، والتي كانت ذات مهامّ محدّدة ومدروسة في خدمة الحبكة، من دون زيادة أو نقصان. بالعودة إليهما، فإنّ الكاتبة زوّدتهما بطاقة ذهنيّة وروحيّة غنيّة، تشبه إلى حدّ ما بعض شخصيّات الملحمة الروائيّة، «البحث عن الزمن المفقود» 1913 1922 ، للروائيّ الفرنسيّ مارسيل بروست، وتدفع عبر هذه الطاقة المستمدّة من الشخصيّتين القارئ إلى تبنّي الحكاية كما هي، لفرط تصديقه الشخصيّات.
امرأة طاعنة في السنّ تسير خطاها الأخيرة في الدنيا، وطفلة تتحسّس خطواتها الأولى، تمتصّان الحدث، وتسلبان القارئ القدرة على الفكاك من سؤال الصفحات الأولى: كيف لطفلة أن تتعافى بعد أن ألقت النكبة بأوزارها عليها؟ وعلى أيّ شكل ستمضي حياتها؟ سؤال أجابت عنه أجيال متعاقبة من جيل النكبة حتّى يومنا هذا، عبر توارث الحكايات من فرد إلى آخر، ومن جيل إلى جيل.
ينصب الحدث الكبير فِخاخه للروائيّين، فتسقط روايات كثيرة في فخّ التكرار، سواء على مستوى الحدث، أو استهلاك الجمل والعبارات المعلّبة، أو تكرار الأوصاف والاستعارات. نجحت رجاء بكريّة في الهرب من هذه الفخاخ باعتمادها على ظلال الحدث لا الحدث نفسه، وركّزت على مصائر شخصيّاتها الروائيّة التي تقود، نهاية كلّ شيء، إلى الحدث الكبير.
لقد تناولت الجزء المندرج تحت الكلّ، والمصير الفرديّ الذي يشير إلى المأساة الجماعيّة، والتفاصيل الصغيرةالتي تكوّن الصورة الكبرى. هربت من مفردات التيه، والشتات، والاضطّهاد، والقهر، والاحتلال، واللغة التي يفرضها الحدث، إلى اللغة التي تفرضها الشخوص، ومن المفردات الجافّة التي تصف هكذا أحداث، إلى اللغة المشبعة بالعواطف الإنسانيّة التي تعزّز صمود الفرد، اللغة التي تستقي منابعها من شاعريّة الماضي وتنتقل عبره إلى الحاضر والمستقبل، من دون أن تفقد المفردات جماليّتها وقيمها البلاغيّة والتصويريّة.
كاتب فلسطيني