سلمان في روسيا بعنوان اقتصادي وعمق… إيراني
د. وفيق إبراهيم
الملك السعودي سلمان في روسيا غداً، حاملاً شيخوخته المتّصلة بسلسلة أمراض مضنية، متوّجاً التقارب الاقتصادي لبلاده مع موسكو باتفاقات هامّة في قطاعات النفط والغاز، وآملاً من خلالها إحداث خرق نوعيّ في علاقات بلاده مع إيران، الحليفة الأولى لروسيا في «الشرق الأوسط» والعالم الإسلامي.
أهمّية هذه الزيارة أنّها الأولى من نوعها لعاهل سعودي إلى بلاد كانت تتّهمها الرياض بالإلحاد والكفر قبل 1990، كما أنّها تترجم تقارباً نفطياً عمره أكثر من عقد بين البلدين اللذين يحرصان حتى الآن على استقرار أسعار البترول، لارتباطها الحيوي بدخليهما الوطنيين 90 للسعودية و40 لروسيا . وتمكنّا من لجم تدهور أسعاره بين 50 إلى 60 دولاراً للبرميل الواحد، ما حدّ من استمرار الخسائر التي كان يمكن لها أن تطيح باقتصادَيْ البلدين لو استمرّت بالتدهور أو تهدّد بالتالي نظامَيهما السياسيين.
ويُنتظر أن تؤدّي هذه الزيارة إلى تعميق الشراكة الاقتصادية بين البلدين على ثلاثة مستويات: النفط والغاز والقطاعات الأخرى للاقتصاد الصناعي والسياحي، لذلك أعدّت وزارة الطاقة الروسية سلسلة اتفاقات نوعيّة لشركات روسية مع آرامكو السعودية ونوفاتك للغاز لإنشاء معامل في سيبيريا بتمويل سعودي، وشركة سيبور للتعاون في مجال صناعة البتروكيماويات.
وهناك اتفاقات قيد الإعداد، تتعلّق بتمويل سعودي في قطاعات صناعية وسياحية، في أنحاء روسيا، تستطيع بها جذب المتموّل والسائح في آنٍ معاً. لكن السؤال الذي يثير الحيرة هو التالي: كيف يمكن لبلدين يتقاتلان في محورَيْن متخاصمَيْن عسكرياً أن يتعاونا على المستوى الاقتصادي؟
فروسيا متحالفة مع إيران، وسورية تخوض حرباً عسكرية مفتوحة ضدّ محور آخر يضمّ أميركا وحلفاءها الغربيين والسعودية والخليج وتركيا. هذا الحلف الذي يكاد ينهار بعد تراجع النفوذ الأميركي نتيجة استهلاك معظم أوراقه، بدءاً بالدور التركي الذي انحدر من مستوى الحلم بسلطنة عثمانية إلى السعي وراء نفوذ في إدلب، مروراً بالسعودية التي ظلّت تسعى وراء نفوذ كبير في المشرق العربي، حتى أدركت مرحلة الاكتفاء بالبحرين و«قسمة» اليمن، وصولاً إلى إرهاب عالمي كان مموّلاً من الحلف السعودي التركي القطري بإشراف أميركي. وتقلّص من السيطرة على مئات آلاف الكيلومترات المربعة إلى بؤر صغيرة في العراق وسورية.
فبدا المشهد غريباً وغير مألوف، حتى في أكثر السياسات براغماتية: صراع روسي سعودي في سورية هو الأعنف من نوعه، اختلاف في وجهات النظر والتحالفات في العراق، صمت روسيّ كبير على الاجتياح السعودي لليمن، والاكتفاء بإدانات لفظية لسياسات حاكم البحرين مع شعبه، والدعوة إلى تفاهمات إيرانية، سعودية، في حين أنّ طهران هي حليف موسكو العسكري والسياسي في سورية.
هذا الوضع يكشف مدى حاجة كلٍّ من روسيا والسعودية إلى بعضهما لتوفير التوازن الاقتصادي لبلديهما، خصوصاً أنّ السعودية لاحظت أنّ هناك انكفاءً أميركياً نفطياً سببه بدء الولايات المتحدة الأميركية بالاستثمار في نفطها وغازها الصخريّين. وهذا يعني أنّها لن تتأخّر في أداء دور المنافس لكلّ من روسيا والسعودية في أوقات ليست ببعيدة.
وتنبّهت السعودية أيضاً إلى أنّ واشنطن أصبحت تكتفي بالصراخ ولا تحسم، منذ ولاية الرئيس السابق أوباما، خصوصاً أنّها من الدول التي تتمتّع بالحماية الأميركية منذ العام 1945، التاريخ الذي وقّع فيه عبد العزيز معاهدة كوينسي مع الريئس الأميركي روزفلت، على أساس الحماية مقابل النفط والاقتصاد. لذلك تبدو واشنطن وكأنّها تتملّص من هذه المعاهدة، من وجهة نظر سعودية، ودليلها أنّها خسرت سورية لمصلحة حلف موسكو طهران، وفقدت العراق لمصلحة إيران. ولولا دورها في اليمن لاشتدّ طوق عراقي يمني حولها متمكّناً من خنقها.
وهنا تتناسى الرياض أنّ السياسة الأميركية تعمل من أجل أميركا أولاً، وترجو أن يستفيد حلفاؤها من هذه الحركة. لكنّ واشنطن لا تسعى إلا وراء مصالح الإمبراطورية الاقتصادية الأميركية، ما يفرض على الحلفاء أن يعملوا وفق هذا الشعار وليس العكس.
سلمان إذن في موسكو لأسباب اقتصادية وسياسية واستراتيجية في آنٍ معاً، فالنفط والغاز من ضروريات الاستمرار الاقتصادي في البلدين، لكنّ نتائج الحروب المندلعة من البحر المتوسط في لبنان وحتى اليمن، مروراً بسورية والعراق، تبدو أكثر أهمية لارتباط استمرار مملكة آل سعود بنتائجها، خصوصاً أنّ المنتصر ليس روسيا فقط، فهناك إيران «العدو الإسلامي الكبير» الذي بات يحظى بنفوذ واسع يدحر النفوذ السعودي في سورية والعراق، ويحتكم على مصادر قوّة دائمة في البحرين ويقاتله بشراسة في اليمن وقد ينتصر عليه.
وتمتلك إيران علاقات بقوى داخل السعودية لا تزال هادئة، لكنّها قد تنفجر عند اكتمال اللحظات التاريخية. ولطهران أيضاً علاقات هامّة بقوى فلسطينية ومصرية وتونسية وجزائرية، هي بمثابة احتياط قد تستعمله في الأوقات الصعبة. بالمقابل، ليس لدى الرياض ما تؤثّر به على طهران، حاولت أن تجنّد السنّة الكرد وعرب الأحواز في إيران، فلم تلقَ استجابة هامّة على الرغم من نثر الذهب السعودي على معارضين، تبيّن أنّ دورهم هزيل جداً.
كذلك، فإنّ المعارضات المحسوبة على السعودية في العراق وسورية، أصبحت غير مرئيّة لفرط هشاشتها، وبدليل أنّ الدور السعودي أصبح غائباً في هذين البلدين، مقتصراً على صرخات يطلقها وزير الدولة لشؤون الخليج تامر السبهان ولا يسمعها أحد.
أمّا في اليمن، فالمشروع السعودي فيه جامد ومتعسّر يبحث عن حلّ يحفظ للرياض ماء وجه آل سعود ولا يرتدّ على أوضاعهم الداخلية. وبالنسبة لآل سعود، فإنّ المتّهم الأول بهذا الانسداد في حروبهم وسياساتهم هي إيران وليست روسيا. لأنّ طهران أصبحت لاعباً هاماً في العالم الإسلامي، ترتبط بعلاقات مع شعوب في دُوَله من آسيا الوسطى مروراً بأفغانستان وباكستان والهند والشيعة في الصين وروسيا حتى العراق وسورية ولبنان.
حتى أنّ حركتها في لبنان، هذا البلد الصغير الذي سيطرت عليه منذ تسلّم المرحوم رفيق الحريري رئاسة الحكومة، أصبحت شبه مشلولة وتقتصر على التجميع والتحشيد، إنّما من دون فائدة تُذكر. وإذا كان المطلوب من أنصار السعودية اللبنانيين عرقلة حركة حزب الله نحو الإقليم، فهذه مسألة أصبحت مستحيلة، لأنّ عليها أن تجابه أولاً رئاسة الجمهورية التي أصبحت في عهد الرئيس ميشال عون تعتبر أنّ سلاح الحزب مرتبط بالعداء لـ «إسرائيل»، وبالتالي فهو مبرّر.
هذه هي العوامل التي تفرض على الملك سلمان فتح ملف إيران مع حلفائها الروس، ومحاولة تخفيف الضغط عن الرياض وإيجاد حلول لمسألة اليمن فقط، مع ضمان الأمن الدائم للبحرين، باعتبار أنّ الوضعين السوري والعراقي مرتبطان بتراجع السياسة الأميركية أكثر من السياسة السعودية.
وتطلب الرياض أيضاً تخفيفاً للدور الإيراني في العالم الإسلامي، وحصّة «غير مقرّرة» لأصدقائها في العراق وسورية، وعدم عرقلة «تصفية القضية الفلسطينية» التي تجري بغطاء مصري أميركي.
هل تنجح موسكو في إحداث خرق ما في جدار العداء السعودي الإيراني؟
يحتاج الأمر إلى مزيد من الانهيارات في صفوف الإرهاب في المنطقة، ما يُسقط الكثير من الآمال السعودية التي لا بدّ أن تترافق مع مزيد من التراجع في مطالبها والعودة إلى الواقعية، حسب الإمكانات والأحجام، لا استناداً إلى النفوذ الأميركي.
أمّا لجهة العلاقات الاقتصادية بين موسكو والرياض، فإنّ مصالح البلدين متكاملة، وتتّجه إلى مزيد من العمق لحاجتيهما إلى اقتصادات تحمي نظامَيْهما السياسيين، وهذا لا بدّ أن يؤدّي إلى مزيد من القراءات المشتركة لأزمات المنطقة على قاعدة التخفيف من العدوانيّة السعوديّة ونشر المذهب الوهابي وهذا يحتاج إلى مزيد من الوقت…