«الباحث»… ما بين الحدث والمعرفة خسر الزمن!
فيينا ـ طلال مرتضى
ثمّة إيهام متعمّد منذ المطلع أعلاه، العتبة الأولى العنوان. ولعلّ قصدية الاسم أتت متماشية مع حراك البطل على مدّ الحدث، بناءً على ما ورد على لسان العوامّ: «لكل شيء من اسمه نصيب!».
الراوي عدنان محمد ومن خلال مرويته الجديدة «الباحث» الصادرة عن «مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» ـ بيروت، يأخذنا نحو أقصية، هو حاول جاهداً على مواراة كل دلالاتها وإشاراتها عن سابع قصد، ربما كان هذا تحاشياً للصدام مع حالات راهنة، لم يزل مجتمعنا العربي يرضخ تحت نيرها، والتي تكنّى بعدّة عناوين منها العادات وقصص العيب وذكورية الحالة المتسلّطة الأحادية، لكن هذه المواراة لم تحقّق هدفها، بما أن الكاتب سترها بغربال لا يمنع الشمس من ولوجه، مع العلم أنه نافح بكلّ ممكناته كي يجعل من مقولته عامّة وإنه يمكن إسقاطها على الكثير من الحالات في بلادنا، لكن ترميزاتها أتت أكثر وضوحاً من دلالاتها، لتخرق عين الحقيقة بسهم موضوعية طرحها.
مما لا شك فيه أنّ الكاتب دخل بهو المروية من بابها العريض، إذ إنّه وعلى بيان أنّ الروايات تحتمل الكثير… الكثير من الأحداث والعلائق، لم يتوانَ من طرح عدّة قصص داخل معمارها الفنّي وربطها بخيط رفيع مثل حبل السرّ.
لكنه ذهب بعيداً ـ ولست أدري هل كان هذا متعمّداً ـ وقت عمل على تشتيت قارئه كي لا يمسك بزمام الحكاية والقبض على مضمر مقولاتها، وهي محاولة محسوبة له مرّة ومحسوبة عليه مرّة، وهنا أشير تفصيلاً إلى ما أسلفت أعلاه، بأن الكاتب لعب باتّزان تارة على حبل الحدث، بحيث يتلمّس القارئ العليم أنه ـ أي الكاتب ـ جعل من الحدث في الرواية هو الحامل المركزي لها، لكن هذا سرعان ما يتبدّد، عندما يجده قد قفز إلى حبل تالٍ بخفّة بهلاونية لا يتلمّسها أيّ قارئ عادي، والمتمثلة بذهابه بالمروية نحو مصطلحات عميقة وقضايا مثل حقوق المرأة ومناصرتها أو التطرّق إلى موضوعات الجنس والطبّ أو مناهج ثقافية مهمّة. وهنا أشير إلى أنّها التفاتة مهمّة من الكاتب حين أراد وصم مرويته بأنّها مرويّة مثقّفة، وحمّالة أوجه.
ما يحسب له هو الاشتغال على ترتيب الأحداث وربطها ببعضها. لكن هذه الأحداث لم تحتدم إلى أوج ما يصبو إليه القارئ، فالقارئ جلّ ما ينشيه في مقولة المروية هو تواتر الحدث لدرجة أنّ القارئ يجد نفسه شريكاً بما تمّ إسقاطه على دوح الورق.
أما قصّة ضخّ الموضوعات الأخرى، فبالتأكيد أتت كركيزة داعمة لما اجترعه الراوي من حيث تدوين الكثير من المعلومات والتي قد يجهلها قارئنا العربي من خلال الحواريات بين «وائل» بطل المروية وصديقه «علي» المثقّف. من الطبيعي أن تكون هذه الموضوعات حاملاً إضافياً للمروية لغناها المعرفي، لكن طريقة تمريرها من خلال الحوارات جاءت متناقضة، فالجدير بالذكر أنّ «وائل» بطل المروية وهو كما قدّمه الكاتب طالب جامعي، وهنا يأتي دور المراقب ليسأل، بما أن كلّ حكايات الموضوعات المعرفية التي تمّ ضخّها في النصّ أتت على لسان «علي» صديق «وائل» من خلال أسئلة تولّدت في سياق الأحاديث، وهو ما أوهمنا به الكاتب من خلال أسئلة «وائل» العادية بأنه أما جاهل أو ساذج، وأقول هذا لأنه لا يمكن أن يكون هناك أيّ طالب جامعيّ لا يلمّ بتلك الموضوعات، ومن المؤكد أنها بغاية الأهمية، لكن طريقة السؤال هي التي فخّخت الأمر مثل، ماذا يعني كذا وكذا؟
مع العلم التام أنّ المروية هي مثل دوّامة قادرة على ابتلاع الكثير وجعل هذا الكثير يدور في فلكها ويصير جزءاً من كلّ بنيانها. إلا أنّ مروية «الباحث»، ورغم جرأة طرح مواضيع اشكالية، شهدت حشواً في بعض الأماكن ما يجعل آلية السرد رتيبة ومملّة، وهذا كان خطيراً عندما تلمّسته في المطالع، ما حفّزني أوّلاً للتوقّف عن القراءة، وهو أمر قد أغفله الكاتب، بمعنى، أنّني أجد الكاتب مثل صياد حذق عليه أن يجهد بكل ممكانته كي يوقع فريسته ـ أي القارئ ـ في فخّ الغواية عبر رشّه قمبس التشويق، وهو كما جاء في الصفحات الأولى:
«أغلق باب المنزل… وضغط زرّ جهاز فتح إقفال باب سيارته. وهو يقفل آخر زرّ من أزرار قميصه الأسود المطرّز بخيوط بيضاء، فتح باب السيارة… وأدار المفتاح لتشغيل المحرّك، وبينما هو بانتظار تسخين محرّك السيارة، فتح دُرج السيارة ليأخذ بِيده علبة السجائر، التي عادة ما يخفيها عن الأنظار، في المكان ذاته كي لا يراها والداه!».
كان هذا المشهد وحده محفّزاً لترك المروية جانباً، ولولا شكّي بأنّ هناك قصداً ما من وراء ذلك، لفعلت ما يتوجب، وبالفعل استطاع جرّي إلى الخاتمة بحنكة من دون درايتي، حيث كنت تائهاً في أسئلتي الضمنية: هل أبني مقالي هذا على دلالة الحدث المتشعّب؟ أم أتبع العلامات التي تركها مثل مفاتيح للولوج إلى أكواد النصّ المرمّز بالمقولات؟ في الختام، لا بدّ من قول فصل، يشي بالفعل بأنّ «الباحث» مروية مثقّفة، كسبت من خلال ميزان القراءة جولة الحدث وجولة المعرفة وخسرت في ميدان «الزمن» الذي بدا فيها هائماً على وجهه.
شاعر وناقد سوريّ