قراءة «حاقدة» للغريب آلبير كامو
جمال قصودة
في خاتمة رواية «الغريب» للكاتب والفيلسوف الوجودي الفرنسي آلبير كامو، حمّلنا «مُرسو» بطل الرواية أمنية أخيرة قبل إعدامه وهي «أن يحضر إعدامه جمعٌ غفيرٌ، وأن يستقبلوه بصرخات حقدٍ»«. فاتنا ربما أن نحضر لحظة الإعدام لكنّ الصرخات الحاقدة ما تزال ممكنة، خصوصاً حين نتذكرّ قول عبد الرحمن منيف في رواية «شرق المتوسط» إذ يهمس فينا: «أريدك إن تكون حاقداً وأنت تُحارب، الحقد أحسن المعلمين، يجب أن تحول أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر، أما إذا استسلمت للحزن فسوف تهزم وتنتهي، سوف تهزم كإنسان، وسوف تنتهي كقضية». ولأننا نزعم الدفاع عن قضيّة سنلتزم بنصيحة هذا الأخير ونحققّ أمنية الآخر، نعود إلى عنوان القراءة بعد أن بيّنا سبب وصفها بالحاقدة، ونمرّ للحديث عن «الغريب آلبير كامو»، إذ لا نرى أيّ غرابة في وصف بطل روايته بالغريب رغم تكلّس مشاعر «مرُسو» وتبلّد أفكاره العبثيّة اللامبالية. إلا أنها بالنهاية شخصية سرديّة ومحض خيال، لا واقع لها خارج سياقها القصصي أو زمنها الروائي.
لهذا، كلّ ما يصدر عن الشخصيّة الرئيسيّة يمكن أن يفهم وأن يوضع في سلّته العبثيّة والوجوديّة. لكن مكمن الغرابة بالنسبة إلينا هو كاتب الأثر الذي بدا لنا في كامل الرواية ـ التي شغلت الناس منذ عقود ـ صاحب أجندة دفاع كولونيالية هدفها التسويق لفرنسيّة الأرض الجزائرية، وفي ازدراء تام للحضور العربيّ واقعاً وتخييلاً ضمن الرواية، حاول التسويق أيضاً للإنسانية الفرنسية التي تحاكم مواطنيها بتهمة «دفن الأمّ بقلب مجرم»، مهمّشاً تمام التهميش الضحيّة العربيّ الذي قتل بدم بارد.
فما هي مكامن وتجلّيات غرابة آلبير كامو في طيّات هذا الأثر «الغريب»؟ وما تجلّيات الأجندة الكولينيالية التي يحملها الكاتب ويدافع عنها همساً ويحاول تكريسها عبر الرواية؟
إن الفضاء الجغرافيّ / المكانيّ الذي يحتضن الأحداث في كامل رواية «الغريب» تميّزه البنية الفرنسية وتغيب فيه الجزائر رغم حضورها، أو ربما هي الجزائر الفرنسيّة بمطاعمها وحانتها وشواطئها تأكيداً للنظرة الكولونيالية التي تعتبر الجزائر جزء من فرنسا، إذ لا تحضر الجزائر تصريحاً في كامل الرواية إلا مرّة أو مرتين تحدثّ فيها الكاتب عن مدينة «مرِنغو MARENGO»، وهي تسمية استعمارية فرنسية لمدينة «جحوط» الواقعة على بعد ثمانين كيلومتراً من مدينة الجزائر. وهذه الجملة للكاتب أيضاً، تحدّث فيها عن الجزائر العاصمة من دون أن يذكر أنها العاصمة. لأنه يستبطن لاوعياً كولونيالياً، أمكنة كثيرة دارت فيها أحداث الرواية ولكنّ القارئ لو أغفل التصريح الذي حصل مرةّ أو مرتين لن يستشف أن الكاتب يتحدثّ عن أمكنة جزائرية، إذ طمس آلبير كامو كلّ خصوصية للمكان وحمّله بنية وروحاً فرنسيّتين، من خلال ربطه بتقاليد في الأكل النقانق والشرب الحانات وفي التعامل الإنساني الأحضان والقبل على الشاطئ كلّ هذه التقاليد التي أكد عليها آلبير كامو داخل روايته منحت الأمكنة روحاً فرنسية وطمست الروح الجزائرية للمكان.
ولفهم النظرة الكولونيالية للكاتب علينا ان نطرح التساؤل الذي سبقنا إليه إدوارد سعيد حول اختيار كامو للإطار المشهدي الجغرافي لـ«الغريب» 1942 و«الطاعون» 1947 ، والمجموعة الشيّقة جداً من قصصه القصيرة المنشورة بعنوان «المنفى والملكوت» 1957 ، لما كانت الجزائر الإطار المشهديّ لسرديات كانت وما تزال مرجعيّتها الرئيسية في حالة العملين الأوّلين تتأوّل باعتبارها فرنسا بشكل عام وبشكل أشد تخصيصاً: فرنسا تحت الاحتلال النازي؟ إنّ «أوبراين» ليذهب إلى أبعد ممّا يذهب إليه معظم «المعلّقين» حيث يلاحظ أن الاختيار ليس بريئاً، وأنّ الكثير ممّا في الحكايات على سبيل المثال محاكمة مُرسو هو إمّا تسويغ مستسرّ أو لاوعٍ للحكم الفرنسي، وإما محاولة عقائديّة لتجميله.
لا يفوتنا هنا أن نجيب بعض المدافعين الجزائرين الذين استدلّوا في تأكيد تعلّق آلبير كامو بالجزائر بكونه وصفها بأرض الشمس ووصف باريس بكونها مدينة الرماد. إن هذا القول رجراج ومخاتل، فحين تصف أرضاً بما فيها من شمس حارقة وتستعير الرماد لوصف ثلوج مدينة أخرى، فأنت لم تقّدم أيّ مشاعر تجاه هذه ولا تلك، بل نقلت الحال على ما هو عليه. فوصف الجزائر بأرض الشمس لا يقصد به البتّة أنها أرض الحقيقة أو النور، بل يقصد به أنها أرض الشمس الحارقة التي بدا «مرسو» بطل الرواية متأفّفاً من حرّها في محاكمته.
الشخصيات العربيّة في رواية «الغريب» شخصيات هامشيّة لا فعل لها في صيرورة الأحداث باستثناء وجود الضحيّة في عقدة الرواية. ولكن حضوره أيضاً فيه تقزيم كبير له وازدراء أكبر نأتي إليه لاحقاً بعد الحديث عن كون هذه الشخصيات جميعاً وردت بلا أسماء ولا أوصاف، وإن حدث ووصفها آلبير كامو فسيلصق بها ما يشينها، كالخيانة التي ألصقها «رايمون» بعشيقته «الموريّة» والمورو أو المورويّة مصطلح عاميّ من أصول إسبانية استعمله المستعمر الفرنسي للحديث عن المزيج العربي الأمازيغي في شمال أفريقيا، والمصطلح ينمّ عن ازدراء كبير لهذا العنصر البشري، إذ إنّ هذه العشيقة بائعة هوى وخائنة وموريّة لا بل تستحق الضرب، إذ لم يبد بطل الرواية أيّ تعاطف معها بل حمل لها حقداً دفيناً، وساهم «مرسو» في تأديبها عبر كتابة رسالة «عنّفها فيها» لصالح صديقه «رايمون». بل لم يبد أيّ اهتمام وهي تُضرَب من طرف صديقه، إذ همست «ماري» لـ«مرسو» قائلة: «إن الأمر فظيع، فلم أجب بشيء، طلبت منّي أن أذهب لإحضار شرطي، فأخبرتها أني لا أحبّ الشرطة».
لسنا هنا لنحاكم بطل رواية خياليّة لكونه لم يتفاعل مع امرأة عربيّة تضرب وتهان، ولكن الازدراء الذي قصده الكاتب للعنصر العربي واعٍ تمام الوعي ومقصود، منذ ذلك أن الضحيّة ومرافقيه لا نقف لهم على أيّ اسم تماماً مثل «الموريّة». هذا ما يذهب إليه إدوارد سعيد أيضاً فيقول: «صحيح أنّ مُرسو يقتل عربيّاً، بيد أن هذا العربيّ لا اسم له ويبدو دونما تاريخ، دع عنك ان يكون له أمّ أو أب».
لكن قمّة الازدراء أن تموت الضحيّة على يد بطل الرواية، هذا البطل ظاهره شخصيّة عبثية على عدم مبالاتها هي مسقطة على الشّجار الحاصل بين «رايمون» والعربيّ بسبب الموريّة، هذا القتل هو تأكيد من آلبير كامو أن العرب يستحقون الموت بسبب أو من دونه، لأن شخصية لامبالية مثل «مرسو» ما كانت لتقتل لو لم يحمّلها الكاتب ثقافته الكولونيالية، فحرّكها في إطارها وبموجبها، فقُتلت بلا سبب.
مع تقدّم الأحداث داخل الرواية، يمعن آلبير كامو في تهميش الضحيّة العربيّ اذ لم يذكر في المحاكمة. لا بل صارت المحاكمة تدور حول لامبالاة «مرسو» الذي أودع أمّه في مأوى المسنّين. فصار إشعاله سيجارة أمام رفاتها أو شربه الحليب أو خروجه مع عشيقته بعد دفن أمّه، محور المحاكمة وأصل الجرم، تهميش القضيّة الرئيسة وهي القتل والاحتفاء بمنشود القيم الإنسانية الفرنسيّة، صار أصل المحاكمة. حتّى أن البطل أعلن انه يحاكم بالإعدام لأنه «دفن أمّه بقلب مجرم». ظاهر هذه الخاتمة انتصار للقيم الإنسانية السمحة والنبيلة وباطنها ثقافة كولونيالية تسويقية للإنسانية، مفقودة للمستعمر منذ ذلك، أنه حكم بقطع رأسه في ساحة عامة بِاسم الشعب الفرنسي ليس انتصاراً للضحيّة التي قتلت بدم بارد وبلا سبب، إنما دفاعاً عن القيم الفرنسيّة.
إن هذه القراءة على ما فيها من انحياز فاضح قد يبّرره البعض بالدفاع وقد لا يقبله آخرون، ولكنّه بالنهاية حقد بحقد، حقد ضحايا الاستعمار تجاه مستعمريهم ولا يستوي المستعمِر والمستعمَر. ونختم هاهنا بقول إدوارد سعيد: «إن كتابات كامو مفعمة بحساسية استعمارية متأخّرة تأخّراً فائقاً، بل إنها بطريقة ما حساسيّة مشلولة، تقوم بأداء حركة إمبريالية وعن طريق شكلٍ، هو الرواية الواقعيّة، كان قد تجاوز ببونٍ شاسع إنجازاته العظمى في أوروبا».
كاتب وإعلاميّ تونسيّ