بين الجبير والخزعلي العرب خارج المعادلة
د. رائد المصري
دعونا نبتعد قليلاً اليوم عن استحضار أحلام النوستالجيا العربية بمفاهيمها القومية والوحدوية والتي كانت ضرورية في مرحلة تاريخية سابقة لزيادة الدفع في سياق حركة التحرير في مواجهة المستعمرين الأميركيين و«الإسرائيليين» وفي قضية فلسطين، ولندخل مباشرة في صلب الموضوع الذي تطوَّر فيه هذا الصراع باستخدام أدوات استنزاف جديدة، في حين بقيت أدوات المواجهة العربية والإسلامية بعدَّتها وعديدها وأفكارها ومفاهيمها قديمة لا تنسجم مع متطلبات المرحلة، ولا من خلال الإشارة إلى المسؤولية التاريخية لبعض الدول العربية، ومن الرجعيات منها، وما أَلْحقته من ضرر فادح في مسيرة هذا الصراع الوجودي، بما يخصُّ قضايا الأمة العربية وفلسطين والقدس وغيرها من الدول كالعراق واليمن وسورية وليبيا…
فهناك مسؤولية كبيرة تقع بشكل مباشر على بعض دول الخليج، ومنها السعودية، كإحدى أكبرهذه الدول وتجب الإضاءة على هذا الموضوع، فضرورة علاج المرض تستلزم أولاً مسؤولية تشخيصه لإعطاء العلاج المناسب وإلاَّ فعبثاً المحاولات كلها، وعبثاً تنتهي كلُّ هذه النضالات والمسرحيات والخطابات الجماهيرية اليوم بما يخصّ القدس وفلسطين، وكأنَّ الجميع يريد تقليد خطابات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أو الرئيس الراحل حافظ الأسد أو السيد حسن نصرالله…
فهناك فروق كبيرة في مواقف الدول إزاء قضية فلسطين والقدس جسَّدتها حركات المقاومة وهزمت مشاريع الاستعمار الأميركية والصهيونية ومعها الرجعيات العربية المتواطئة. هذه الفوارق لا يُريد العقل العربي الجمعي النظر إليها والإشارة الى خيباته، لأنَّ مخيِّلة النوستالجيا التاريخية لديه ما زالت قائمة، ولكونه عاجزاً عن تقديم البديل النضالي والمشروع الإيديولوجي والرؤية الاستراتيجية، كما هي حال مشروع المقاومة الممتدّ من طهران إلى بيروت وفلسطين، فقد فشل وأَفْشَل وساعد خط ترامب الجبير نتنياهو، من حيث لا يدري بتمييع القضية وحرف مسارها، لكون إيران هي المُمسكة بمفاصل القضية الفلسطينية والمحرِّك والدافع الأساسي لها اليوم. وهذا الحسُّ العنصري لدى بعض الأقوام العرب يربأ بنفسه عن هذا الصراع من خارج الإطار السعودي الرجعي أو المصري بكامب ديفيد، ويقف منتظراً حائراً، بينما القدس وكلُّ المقدَّسات فيها تُقضَم شيئاً فشيئاً وهم يعيشون في وَهْمِِ إنتظار الساعة حين تحلُّ لركوب أحصنتهم القومية التي بالت وأكلَها صدأ سنوات هذا الانتظار…
زيارة قيسِ الخَزعلي إلى جنوب لبنان واطلاعه على أرض فلسطين ومعاينته لها مباشرة مُخضعاً إياها للعقل الحسِّي والمنطقي في مقاربة الأشياء والشعور بها كقضية تلامس الوجدان كلَّ وجدان الأمة، جعلتِ الاستنفار كبيراً من المحيط الى الخليج في العقل الجمعي العربي، لكون أصحاب هذا العقل العنصري لهم الحقَّ الحصري في معاينة فلسطين والانتظار أياماً وسنين لتنضج ظروفهم الملائمة، كما انتظروا جسَد الأمة السورية يتهشَّم ويفترسه التكفير الضلالي المدعوم إسرائيلياً وأميركياً وخليجياً، لكون التدخُّل في سورية فُهِمَ بأنه إيراني وروسي فهم غير معنيين فيه، ولكون من يحارب الإرهاب التكفيري على حدود لبنان الشرقية هو حزب الله فصمتوا وتنحُّوا جانباً وهذه حقائق لم ننسَها بعد…
أمَّا تصريحات الجبير الأخيرة المُّشينة بحقِّ لبنان ورئيسه وسيادته، وإعادة تأليب السِّلم الأهلي فيه والتدخُّل في شؤونه الداخلية بشكل سافر، فلم يجد من ينبس ببنت شفة عليه ليُثْنيه أو يضع حداً لهذه المهزلة السعودية ومغامرات صبيانها التي فاقت كلَّ اللياقات والمشاعر… لا بأسَ، فهي بنظر هؤلاء الوحدويين رمز عربي جندري يُعتدُّ به لمستقبل الأيام ولتحرير فلسطين….
وفي مقاربة أخرى غير منصفة بحقِّ الصراع الدامي في أقبح وجهٍ من وجوهه، فتقول المندوبة الأميركية في مجلس الأمن السيدة نيكي هايلي حول خطورة إطلاق الصاروخ اليمني على السعودية، بأنَّه كان يمكن أن يصيب المدنيين في المطار السعودي. مع العلم وللمفارقة هنا فإن الصواريخ والأسلحة التي تقدمها حكومتها للسعودية والتي قضَتْ على عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء وأحرقت أجساد آلاف الأطفال والنساء في اليمن وتسبَّبت بأكبر كارثة إنسانية في هذا العصر، بما فيها من مجاعة وأمراض وفقر وتدمير، لم تجد مَن يستنكرها أو يُدينها أو يشجبها، بينما معاينة قيس الخزعلي لفلسطين عن قرب، والحديث عن ضرورة تحريرها وإخراج اليهود الصهاينة منها، قلب دنيا العرب رأساً على عقب، من دون أن يقولوا لنا ما هي بدائلهم… وإلى مَن سيركنون في صراعهم الوجودي، هل لقمِّة المؤتمر الإسلامي الأخيرة في اسطنبول وقراراتها التي اتصفت بالجريئة الى حدٍّ معقول؟… أم بالتصويب على هذه القمة لكون الراعيَّين الرسميَّين لها كانتا إيران وتركيا وعرب الخليج وعرب كامب ديفيد وأوسلو خارجها..؟
فمن يستحقّ الإدانة من المجتمع الدولي اليوم هي الولايات المتحدة التي شكَّلت الغَطاء السياسي لمرتكبي المجازر في اليمن وأعطتهم كلَّ أنواع الأسلحة القاتلة. فكان الأجدى أن يكون الحشد الدولي اليوم لوقف هذه الحرب المهزلة، وكان الأجدى كذلك تصويب البوصلة على القدس وفلسطين كما فعل ترامب. وعلى كلِّ الرجعيات العربية والخليجية المسؤولة عن دمار الأمة ودولها، وليس على المقاومات وإيران بحمل مسطرة القياس في حساباتها وتقييم أخطائها، مهما كانت جانبية ومقارنتها بالمنجزات القومية التي ما زال ينتظرها هؤلاء على قارعة الطريق والتي لن تتحقَّق… فما بين الجبير والخزعلي حكاية بسيطة ملخَّصها الكرامة لا أكثر ولا أقل…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية