هل ينجو العالم من جنون ترامب النووي؟
د. وفيق إبراهيم
ليست هناك مغالاة في طرح هذه الفرضية، خصوصاً بعد السؤال الخطير الذي أرسله الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى قيادات بلاده الاستراتيجية، قائلاً: «ما نفعُ امتلاكنا سلاحاً نووياً هو الأكثر قوة من نوعه ولا نستطيع استعماله للمحافظة على تفوّقنا؟»
أتاه الردّ سريعاً من الصناعات العسكرية غير التقليدية بطرح فكرة «تشظية» السلاح النووي الواسع التدمير إلى «عيارات صغيرة» تتناسب بدقة مع حجم الأهداف المطلوبة.. التي يمكن أن تتراوح بين مخزن صغير إلى ربع مدينة أو شارع وحتى مبنى، وبذلك يجري تأهيل السلاح النووي.. لا ليُدمّر العالم.. بل ليصبح في خدمة المعارك التكتيكية، التي تؤسس باجتماعها مصالح سياسية. وتؤمّن في الوقت نفسه ردعاً منقطع النظير على المستوى العالمي.. وبذلك تخدم المخزونات النووية الأميركية الضخمة السياسات التقليدية بما يؤدّي إلى الاستغناء النسبي عن الجحافل العسكرية ما يلحق بها عادة من خسائر في البشر والعتاد والإنفاق المادي الشديد الكلفة.
للإشارة فإنّ الأميركيين هم أول من استخدم سلاحاً نووياً مؤلفاً من قنبلتين نوويتين ألقوهما في 1945 على مدينتين يابانيتين قتلوا بهما عشرات آلاف البشر وربحوا بواسطتهما الحرب العالمية الثانية والسيطرة على العالم بأسره.
كان الأميركيون آنذاك قوة نووية وحيدة لكن سرعان ما دخل السوفيات والفرنسيون والبريطانيون و«الإسرائيليون» والهنود والباكستانيون، ما أدّى إلى التبنّي الدولي لفكرة أنّ النووي «سلاح ردع» مسبق وليس للاستعمال، ومع العمل على منع ظهور دول نووية أخرى العراق، إيران وجنوب افريقيا .
هذا ما دفع القوى العظمى إلى استخدام أسلحتها التقليدية في حروبها الخاصة بالهيمنة، وما تلاها حتى استنزاف مقدراتها في فيتنام والفيليبين والعراق وأفغانستان وأميركا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط، مع الالتزام العميق بالابتعاد عن استعمال النووي نظراً لتعدّد مراكز انتشاره.
فما الذي طرأ حتى يحاول ترامب تغيير هذه المعادلة؟ إنها من دون أدنى شك الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تجتازها الولايات المتحدة الأميركية، بالتوازي مع تراجع أهمياتها السياسية، وبالتالي الاستراتيجية وصولاً إلى تدني مساحات الجيوبولتيك الخاص بها. وهذا يعني بلغة السوق نسف فكرة الإمبراطورية القدرية الاقتصادية التي قامت على أساسها الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر.
أما كيف وصل الأميركيون إلى هذه الحالة، فتجب العودة إلى مشروعها بالسرعة في إعادة تشكيل العالم اغتناماً لفرصة انهيار الاتحاد السوفياتي، على نحو يضمن هيمنة دهرية لهم. فشنّوا عشرات الحروب المباشرة في أفغانستان على العراق وسورية، فكامل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من دون أن ينجحوا في واحدة منها بشكل كامل.
وحده الرئيس السابق أوباما التقط أسباب تراجع بلاده، متبيّناً أنها هذه الحروب التي لم تجلب مردوداً.. بل أدّت فقط إلى تقلص عديد الطبقات الوسطى وارتفاع مستوى الدين العام. وهذا فرض عليه إقرار سياسات عدم التدخّل العسكري المباشر والاكتفاء بدور المراقبين والمستشارين وقوات نخبة محدودة إلى جانب قواعد تنتشر تاريخياً في كلّ مكان من أصقاع الأرض، والسماح لقوى إقليمية موالية تركيا ـ «إسرائيل» ـ السعودية… القيام بحروب كبيرة تسدُّ غيبة الأميركيين والاستثمار في الإرهاب بأصنافه وألوانه كافة.
ومع ابتداء ولاية ترامب كان التراجع الأميركي يزداد، والتدخل الروسي يزداد عنفاً والدور الإيراني يترسخ. وما كاد ترامب يستيقظ من أحلامه حتى وجد أنّ الجيش السوري حرّر حتى حدود بلاده مع العراق والأردن ولبنان ويكاد يصل إلى الحدود مع تركيا، كما اكتشف أنّ العراق حرّر معظم أراضيه.. ولم يعد أميركياً بالسياسة، كما تشتهي واشنطن. وكذلك اليمن الذي يقاوم التفويض الأميركي للجحافل السعودية بإبادته..
هذا هو الوضع الذي ضاعف من جنون ترامب المعدوم الخبرة في مسالك السياسة ومعارجها، وفرض عليه استشارة قيادته العسكرية التي أفتت له بالسيطرة على شرق الفرات وقسم من الشمال والاستمرار في الإمساك بقاعدة التنف. كما نصحوه بالتلاعب بالأحلاف الانتخابية في العراق ولبنان المقبلين على انتخابات في أيار المقبل.
لكن هذه الحلول لم تهدِّئ من هواجس ترامب. خصوصاً أنّ حلفاءه بدأوا يتفلتون منه… فالترك منزعجون والسعوديون متذمّرون وحكام قطر يخشون من أن يبيعهم ترامب في ليلة ليلاء بحفنة من الدولارات.
وبما انّ معظم الأوراق الأميركية جرى استنزافها، فلماذا لا يذهب ترامب بعقلية «السمسار» الباحث أبداً عن الربح نحو «النووي المدجّن» كوسيلة لإعادة بعث الإمبراطورية؟
لكن هناك فريقاً في إدارته نصحهُ بعدم المغامرة، لأن «النووي» ليس حكراً على واشنطن. واستخدامه بالمفرق لا يعني انّ البلد النووي المتضايق لن يستخدمه بالجملة، ما يؤدّي إلى تدمير العالم بأسره. ونموذج كوريا الشمالية حاضر، وهذه قد تجد نفسها مضطرة إلى إرسال صواريخ نووية نحو أميركا في حالة مهاجمتها بـ«نووي على المقاس».
إلا أنّ فريقاً أميركياً آخر، شجع ترامب على فكرته، لأنها تخلق حرب تسلح جديدة في إطار «تدجين النووي» قد تؤدّي إلى إفلاس روسيا والصين.. فيتحقق المبتغى الأميركي من دون حروب.. ألم يسقط الاتحاد السوفياتي 1989 في حرب التسلّح مع الأميركيين مع البدء في حرب الصراع على النجوم؟ وسباق كهذا قد يُقحم فيها الفرنسيين والبريطانيين و«إسرائيل» والهند وباكستان ما يؤدّي إلى إنهاكهم الاقتصادي وتبعيتهم الكاملة للسمسار ترامب.
إنّها أفكار للتداول، لكنها تعطي فكرة عن حجم المخاطر التي تعترض الإنسانية بأسرها نتيجة لوصول أشخاص غير طبيعيين إلى قيادة الولايات المتحدة أو بلدان أخرى على شاكلتها.. إنها الرأسمالية المتوحّشة التي لا تفكّر إلا بالربح والسطو على المقدرات الاقتصادية للآخرين على حساب استمرار الجنس البشري.. فـ»النووي المدجن» هو قتل تدريجي موضعي يتّسع ويكبر إلى أن يشمل الأنحاء والأصقاع كافة. فهل تسمح الدول النووية لواشنطن بالتفرّد في رحلة امتلاك «النووي على القياس؟»
إنّ من شأن الدخول في مرحلة تصنيع هذه الفكرة هو إدخال العالم في نوعين من الصراعات:
الأولى بين الدول النووية الحالية، في إطار سعي محوري صناعي لابتكار أسلحة دمار شامل غير واسعة المدى. ما يجعل من استعمالها سهلاً.. فتدخل الدول في حروب عالمية جديدة مرعبة وتدميرية، لا تبقي ولا تَذَر، وتؤدّي إلى تراجع الاقتصاد العالمي. أما لجهة النوع الثاني، فيتعلق بدول تمتلك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية لكنها لا تمتلكها.. وعندما تستشعر هذه الدول خوفاً على مصيرها، فمَن الذي يمنعها عن إنتاجه؟.. فيصبح النووي على المقاس منتشراً كحبات الفلافل عند الطلب ويسقط الأمن العالمي وسط قهقهات مجنون هو ترامب يتلاعب بالاستقرار الكوني باحثاً بين جثث القتلى عن مزيد من الدولارات.
وهناك فريق جديد من المتخصّصين يسخرُ من فكرة ترامب، لأنها غير قابلة للاستخدام العملي ولن يكون مكانها إلا في المستودعات النووية الضخمة.. لأن التوازن النووي بين القوى الأساسية يحول بكل تأكيد دون استخدامها، وإلا فقد نشهد «إسرائيل» وهي تلقي بشذرات نووية على مواقع محددة في جنوب لبنان وقطاع غزة ومواقع للجيش السوري وحلفائه ولن نتفاجأ بالأميركيين وهم يسدّدون شظايا نووية على كوريا الشمالية وسورية وحزب الله. الأمر الذي يسمح بالسؤال عن مواقف القوى النووية الأخرى من هذا الأمر.
هذه التساؤلات تدفع إلى تبنّي مقولة عدم القدرة على استخدام النووي، سواء أكان الكثير التدمير أم المعتدل.. بسبب التوازن بين القوى الممتلكة له.
وإذا كانت هناك استحالة في الاستخدام، فلماذا الهرولة الأميركية لتصنيعه؟
يبدو أنّ مشروع إرهاق روسيا والصين وإصابتهما بإفلاس اقتصادي هو الهدف الأميركي الفعلي من مشروع «النووي المعتدل». وعندما يسقط هذان البلدان يصبح بإمكان مجانين البيت الأبيض لجم إيران وكوريا وتأديب المعترضين وبأنواع الأسلحة كافة.. إنها حرب نجوم جديدة لتجديد الهيمنة الأميركية، لكنها لن تؤدّي إلا إلى التسريع بانهيارها، كما حدث لكلّ الإمبراطوريات الدموية في مراحل التاريخ التي أخطأت في الحساب والتقويم.