الناخبون الفعليون في مصر.. خمس قوى!

د. وفيق إبراهيم

تشكّل الانتخابات الرئاسية في مصر فرصة للتساؤل عن مدى قدرتها على إنتاج سلطة تستطيع وقف التدهور الاقتصادي المريع وإعادة «المحروسة» إلى عالمها العربي.

فحجم الفقر المريع يجتاح أكثر من نصف سكانها، إلى جانب الانهيار الكبير للطبقة الوسطى وتقهقر السياحة وتراجع الإنتاج وانتشار الأعمال الإرهابية في مختلف صحاريها وأريافها ومدنها. و«أم الدنيا» في حالة اغتراب كاملة عن مداها العربي منذ ذهب الرئيس السابق أنور السادات إلى «إسرائيل» في 1979 مستسلماً وعاقداً اتفاقية كمب ديفيد التي تخلّى بموجبها عن صحراء سيناء وثرواتها من الغاز وقضية فلسطين وبالتالي الدور العربي لمصر.. ولا تزال مصر منذ ذلك التاريخ في «إسرائيل» ولمّا تعُد بعد..

فهل يُمكن لهذه الانتخابات توفير رئيس يلتزم بتأمين هذين المطلبين الهامين لبلاده وهما النهضتان: الاقتصادية الداخلية والدور العربي؟

يتبنّى الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ انقلابه على حكم الاخوان المسلمين وإطاحته الرئيس السابق محمد مرسي، نهجاً اقتصادياً يقوم على توفير معونات خليجية وأميركية لبلاده إلى جانب مراوحة إنتاجية تتدهور وبسرعة.. وتزداد بسبب معدل المواليد المصري الأعلى من نوعه في العالم، وتمنع رؤوس الأموال الخارجية والداخلية من الاستثمار بسبب الاضطرابات الأمنية الدائمة بين الدولة من جهة والاخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية من جهة ثانية.

سياسياً، يتكئ السيسي على المحور الأميركي ـ السعودي ـ الخليجي والإسرائيلي.. رافعاً في مرات متعددة أصواتاً مفترضة تهدد بالانفتاح على روسيا والصين.. لكنه سرعان ما ينضبط عند وصول مساعدات بسيطة معاوداً الانضباط في هذا المعسكر الأميركي.

ويصادف أن السيسي هو المرشح الفعلي الوحيد إلى جانب مرشحين آخرين، لديهم أهمية وحيدة، هي عجزهم عن المنافسة وتلبيتهم حاجة الديموقراطية إلى حالة تنافسية تصبح في العالم العربي، مجرد إضفاء حالة جمالية سطحية على عمق متوحش.

يشكل هذا العرض السريع ضرورة لتعريف المرشح الناجح سلفاً وهو السيسي وتحديد وجهاته الاقتصادية والسياسية المرتقبة التي لن تخرج عن المألوف المصري منذ 1979، إلا بزلزال داخلي كبير يُعيد صناعة السلطة في مصر في إطار داخلي حصري له مصلحة بالعودة إلى إطاره العربي لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية. فهل هذا ممكن؟

يتوجّب أولاً تحديد فئات الناخبين لاكتشاف مدى وجود إمكانية للتغيير.. لكن الولوج إلى هذا المستوى التحليلي، يكشف أنّ المقترع المصري لم ينتخب أبداً وما يجري هو مجرد صناعة مسرح انتخابي يجري فيه انتخاب الرئيس قبل بدء مرحلة الانتخابات وسط تصفيق الأنصار والأخصام معاً.

إنّ القوى التي تشكل هذه البيئة الانتخابية، تبدأ من فريق السلطة الذي يريد في الغالب التجديد لرئيسه، فيقدمه اعلامياً على شاكلة البطل المنقذ الحامي من المؤامرات بواسطة المخابرات. هناك فريق إقليمي دولي، يدرس ملفه بعناية.. وأوله الأميركيون، أولياء الأمور الذين يمنحون صفارة البداية للذين يختارونه وهو في هذه الانتخابات الرئيس السيسي، أما الفريق الثاني فهي السعودية التي قبلت بالسيسي بعد قبوله بإلغاء حياديته النسبية في أزمة سورية، وإذعانه لإعلان مواقف متشددة من إيران وحلفائها..

«إسرائيل» من جهتها هي القوة الثالثة التي لها رأيها في انتخابات مصر.. قد لا يكون نفوذها مباشراً، لكنها تعرف أن واشنطن لن تقبل برئيس مصري له القدرة على الانقلاب على معاهدة كمب ديفيد، وتعلم أن السعودية بدورها لن ترضى إلا برئيس مصري لا يمتلك القدرة على القفز فوق دورها.

هذا الحلف الأميركي ـ الإسرائيلي ـ السعودي شديد الفاعلية في انتخابات مصر.. وهو الذي يمنح الإذن والتغطية السياسية والاقتصادية للمرشح المحظوظ.

فمن هو الفريق الخامس المشارك في الانتخابات؟ إنهم من دون أدنى شك الإخوان المسلمون اصحاب الانتشار الوازن في مصر.. وبسبب الخوف من إقبالهم الكثيف على الانتخابات أو تغطيتهم لعمليات إرهابية قد تسيء إلى صورة الديموقراطية على الطريقة المصرية.. تتولى المخابرات العامة المصرية إدارة الانتخابات بشكل كامل.. أمنياً وتحريضياً مع اجهاض عمليات تفجير واعتقال إرهابيين يجري نقلها بالألوان على شاشات التلفزة.

هذا من دون إهمال مدى قدرة المخابرات على استبدال الصناديق والتأثير على القوى الاجتماعية الأساسية في الأرياف.. وتنظيم الاحتفالات والرقص الشعبي..

أما الأكثر أهمية، فهو سيطرة المخابرات على وسائل الإعلام المحتكرة من قبل المرشح الرئاسي وأعوانه.. فتروي قصصاً في أفلام قصيرة ومقابلات وتتداول أخباراً مفبركة عن بطولاته في حرب أوكتوبر المجيدة، أو في حروب لم تندلع بعد.. وتقدّم منافسيه من بين المرشحين وكأنهم أولاده.

ويأتي أخيراً دور المؤسسات الدينية من الأزهر إلى الكنيسة القبطية والجماعات الصوفية، أما المهمة الحصرية لرجال الدين في جوامعهم وكنائسهم وجمعياتهم، فهي الترويج لما يمتلكه السيسي من فضائل وقيم وشجاعة، ومدى ما يريده لمصر من عزة وفخر وكبرياء. حتى يصل الأمر وكأن تكليفاً شرعياً على الطريقتين الإسلامية والقبطية صدر من القيادات الدينية بانتخاب السيسي بوحي من مصادر.. عليا.

أكان هؤلاء هم الناخبون الفعليون للرئيس المصري المقبل.. فما دور نحو 23 مليون مصري قالت المراكز المصري إنهم اقترعوا بمعدل تسعين في المئة للسيسي وعشرة في المئة لمنافسيه.

لذلك فهناك إقرار عالمي أنّ دورهم هامشي يكاد يقتصر على تأمين سور شعبية انتخابية تنتظم في صفوف للاقتراع وترحل وقد لا تسأل عن النتائج لأنها تعرفها سلفاً. فلماذا ينظّم هذا النظام الانتخابات إذا كانت على هذا المنوال؟ يفعلها لمجرد إيهام العالم الخارجي بشرعيته، وإقناع الداخل أنه الأقوى، ودفع الإقليم الخليجي الذي يمتلك «المال كالرزّ»، حسب وصف السيسي على منحه أموالاً تجعله يؤمنُ للسياسة الأميركية ـ السعودية ـ الخليجية، مدى مصرياً كبيراً مسجوناً داخل «أم الدنيا» المحروسة، يفتح أبوابه لعلاقات عميقة مع «إسرائيل» والسعودية على قاعدة العداء لإيران وتأييد الحرب السعودية على اليمين واستعداء الدولة السورية بشكل أعنف.

مصر إلى أين؟ لن يسمح الحلف الأميركي ـ السعودي بانهيارها فيزودها بالمعونات والقروض «المحدودة» لمنع الموت، مع الاستمرار بجعلها دولة «منزوعة المخالب والأسنان».. المطلوب أنّ لا تذهب مصر إلى حلف آخر روسي ـ صيني ـ إيراني في هذه المرحلة من التراجعات الأميركية الخطرة.

ولا يعني نجاح الأميركيين في ضبطها كما هي، إمكانية استعمالها هراوة في يد الأميركي أو السعودية. فهذا يزيد من اشتعال الداخل المصري الذي لا يزال يعرف أنّ بلاده أكثر عراقة من الرياض وواشنطن وتل أبيب معاً ويتربص اللحظات المناسبة لإعادة تصحيح الوضع والعودة إلى بلاد الشام والتخلص من اتفاقية كمب ديفيد التي جعلت مصر بلداً سجيناً لا أفق له لا في أفريقيا ولا في بلاد العرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى