الانطلاق في عالَم «بندورا» للقاصّة نهى يسري عبد الغني
د. فايزة حلمي
تفكّ طلاسم الأقصوصة، بعدما ارتدت لسنوات الطفولة، وارتادت حدائق الكلمات السحرية، بحثاً عن حروف ألعابها الملوّنة، تتراءى لامعة كَسَرابٍ عَلى مَرْمَى البَصَر، وحين تَهِم بالتقاطها، تَجِدْها عناقيد حِكْمَة مُضاءة بسكاكر الأبجديّة، تساءلت كأطفال الهالوين: أهذه حلوى العيد أم خِدْعة مُبدِعة؟
عَنْوَنة المجموعة «بندورا»، أجدني أتطلّع لشريطة مُلوّنة، تختال بها كاتبتنا متباهية وهي تزيّن مشاعرها، الفوّاحة عِطراً مِن قارورة مسامها الوجدانية، ذات البَوْح الطفولي المُشاغب.. لأمواج شاطئ حياتها، التي ملأت محابرها بألوان طيفية وما أستأثر بها الأزرق ولن يفعل.
مبدعتنا تُشاكس المستحيل إنها الإجابة المُجَسّدّة لعلامة استفهامنا الكبيرة «مَن يُحْيِي الطِفلَ فِيِنا؟ مَن يقْتحمُ العرينا؟ ومِن أيْدِي السِنين يُنْقِذ السنين؟»!
إنها «بندورا» ساحرتنا الجميلة، استدعتها كاتبتنا.. مِن بين أطياف حَدائق خيالها وارفة الظِلال، شاغلتها بضوء كلماتها، فأسَرَتها طَوْعاً كفراشات المساء، أتتها مُتَحلّقة بحكاياها، كالكواكب السيّارة تدور في أفلاكها.
أبدعت كاتبتنا بتنسيق وزخرفة مدخل عَالَمْها السِحري، الذي تدعونا لنعيش به لحظات نتجوّل بفقّاعة زمنية بللورية، تضمّنا كمركبة وهميّة نُعِيد بِها فقط، أحلى ما في طفولتنا، وضعت إشارة مُبهرة بَرعَت بِها في فَك أسْر حَذَرنا، حين أوضحت أنها أقصوصة في لوحات، لنَسْمَع بَعْدَها صَيْحات قلوبِنا كأسراب طَيْر يَمّم صوب مَأمنه.
وكأن هذه الكلمات شُعْلات استخدمتها الكاتبة بتقنية عالية في حَرْق أوراق مقاومة الدخول لعَالَم «بندورا»، وصَكّ ضمان برحلةٍ ممتعة لقارئيها، كلمة «أقصوصة» فكّكت إزَار السنوات، ولوّنتها ومعها القلوب والأرواح بألوان البهجة، فأسترد العُمْر صِباه حتى أن حَبْوَه سابَق خُطَاه، لتَذّوّق حَلْوى الأقصوصة المغموسة في لوْحات.
الإهداء: «إلى بندورا.. إلى الوفاء والإخلاص بكل معانيهما.. أهدي حواديتي».
إنه إهداء مِن الذات النقيّة إلي الذات الكامنة، ما خرج الإهداء عن قشرته، إنه النهر بمسيرته مِن منبعه لمصبّه، ونحن قارئيك بندورا موصل جيد لتراتيل المشاعر بمعابد الإنسانية، بأوجز معانيها «الوفاء والإخلاص»، تهدي مبدعتنا حواديتها ونحن نتقافز تسابقاً لالتقاط قطرات مُرسلة لأرواحنا الطفولية.. بِعِطر الوصول.
أرادت كاتبتنا أن نمضي معها بعفوية طفولتنا، تصافح خطواتنا دروب مبطنة بنعومة فراء الحواديت السحريّة التي حرصت على كثافتها، لكن لهفة العناق غَيْر الحَذِر لمواطن طال الشوق لها، لم يغْفل رسائل بحرارة حِكْمِة السنين، تصل وَمَضَاتها مباشرة للعقول التي لم تستجب بَعْد لِحَلْوَى الغواية، بصرف النظر عن أثرها:
«المعرفة بتحرق اللي بيدوّر عليها…
هو فيه حدّ فاهم ولا عارف حاجة…
يا بنتي المعرفة زي ما هي نور بينوّر لينا الطريق اللي بقى ضلمة، هي نار وعذاب…
احكم بين الناس بالعدل والإحسان، وانشر بينهم قيم الحق والخير والجمال والتسامح…
وأذكّرك أن التاريخ لا يموت، ولا يقبل التزييف…
التسامح هو أجمل شيء في الحياة، والتواضع شيمة الأكرمين…».
مبدعتنا أشبه ما تكون بصيدلي بارع، يتقن عمله بتغليف المادة الفعّالة بحلوى زاهية الألوان جميلة المذاق، ليس لأننا مَرضَى، بل لفعالية المُحتوَى في التعامل مع المتغيّرات الحياتية، خلال ارتيادنا طُرقاً وَعِرة لا تقلّ خطورة عَمّا واجهه أبطال الحدوتة طوال مراحل رحلتهما.
لأن قُطّاع الطُرُق والوحوش الضارية والحِيَل السحرية التي استخدمتها العجوز لاستدراج الأخ الأصغر، والطمع والتطفّل وحب الاستطلاع الموجود لدى بندورا، وعدم الاحتفاظ بالأسرار والخيانة للصديق، كلها ليست صفات خيالية موجودة فقط في الأقاصيص السحرية، بل هي سِمات حقيقية آنية مازالت تنمو وتتوالد بفعل الرطوبة الأخلاقية.
كاتبتنا تحاول بصورةٍ ساحرة، أن تَبْتعِد عن المُباشرة في التوجيه، لكنها رغما عنها تُسَلّط مصابيح كاشفة لمناطق أضحت مُعتِمة منذ الزمن الجميل، مناطق تَغْفو بها صفات نبيلة تتمثّل في التواضع والإيثار وحُسن الخُلق والحِكمة.
ولعلّنا نتساءل الآن: هل هذه الصفات الآن قد نجدها غافية في نسخة مميّزة مِن صندوق بندورا؟ هل فككنا أكواد الحكايات.. الواحد تلو الآخر؟ هل الطائر المُجنّح الذي أسرى بنا لفضاء خيالنا نجمع النجْمات، عاد بنا أخيراً محمّلين بواقع الغيمات؟ هل أيقظتنا هذه اللوحات التي شكّلت الأقصوصة بأن أواني الضمائر خاوية مِن زادها؟ وأن دماء الشرايين باتت مياه عَكِرة غير صالحة للحياة؟
أكانت «حواديت بندورا» ووعودها لنا بالحلوى، هي في حقيقتها خدعة؟ أحرارة الدعوة لارتياد العالم السِحري لصندوق «بندورا» بِعفوية خُطانا واخضرار قلوبنا وشفافية أرواحنا ونقاء سريرتنا الطفولية، كانت تستهدف حِدّة بصيرتنا للوصول لسدرة منتهى الوعي والاستيعاب للحِكمة الخفيّة بين طيّات الملامح الخيالية للحدّوتة، والمُخبّأة بمهارة مبدعتنا، عند مُفترق غَيْر مرئي كمَرَجِ المَعْنيْن يلتقيان، غَيْر أن بَيْنَهما لا نراه بحواسنا، بل تدركه عقولنا؟!
مستشارة نفسيّة وتربويّة/ مصر