سورية.. نحو دور إقليمي!؟
د. وفيق إبراهيم
هذه فرضية تبدو صعبة التشكّل في مثل هذه الظروف التي تُصيب سورية منذ سبع سنوات متواصلة. تندلع فيها معارك مستمرّة فوق مساحتها كلها، بين دولة وطنية متمكّنة وإرهاب عالمي مدعوم من دول إقليمية ودولية بالسلاح والتدريب والدعمين المالي واللوجستي والاحتلال المباشر.
فهل يمكن للدولة السورية أن تطمح لدور إقليمي وهي التي لم تخرج بعد من مرحلة تحرير ترابها كاملاً؟ صحيح، أنها حرّرت ثلاثة أرباع مساحة البلاد، لكنها لا تزال تعاني من احتلالين تركي وأميركي وبؤر إرهابية ومساحات يديرها الكرد في شمال الشرق السوري. هذا إلى جانب أنّ إعادة إعمار سورية تجب أن تعقب مرحلة التحرير بشكل تدريجي.. وهي 3 أقسام: تحرير كامل الأرض، إعادة النازحين، والإعمار الذي يحتاج إلى جهد سنوات وأموال ضخمة بمئات مليارات الدولارات لمواكبة إعادة البناء السياسية.
للوهلة الأولى يظنّ المراقبون أنّ سورية لا تستطيع إذاً الانتباه إلى حركة الإقليم والتأثير فيها لانهماكها المرتقب بشؤون الداخل إلى الحدود القصوى. لكن الدراسة العميقة لأدوار الدول الكبرى اللاعبة في الشرق الأوسط والإقليمية والعربية وإمكانات سورية تكشف عن تفاعلات جديدة ليست بالحسبان.
على المستوى الدولي، كان الأميركيون يُمسكون بالمنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ انهيار منافسيهم السوفيات الروس في العام 1989. فحاولوا إعادة ترتيب الكيانات السياسية العربية والإسلامية في ضوء حاجات الجيوبوليتيك الخاص بهم، المكتسح العالم من دون منافسة..
هل ينفي أحد أنّ واشنطن قتلت في هذه المرحلة مئات الآلاف من الأفغان والباكستانيين والعراقيين والسوريين بشكل مباشر وغطت قتل الإرهاب للملايين بشكل غير مباشر.
العوامل التي نسّقت الخطة الأميركية بدأت بانخراط حزب الله العسكري إلى جانب الدولة. وكان جهاداً موضوعياً وموفقاً. تلته مشاركة إيران إلى جانب الرئيس الأسد على المستويات المادية والعسكرية كلها. وجاء التدخل الروسي العسكري العنيف ليجهز على الطموحات التوسعية الأميركية، متيحاً للجيش السوري استعادة بلاده، باستثناء جيوب صغيرة. الأمر الذي قلص من طموحات الأميركيين المنكفئين الآن عن سورية كاملة، والمعترفين «عن ضعف» بمركزية الدور الروسي فيها وليس تفضلاً أو محاصصة. فقمة هلسنكي شكلت اعترافاً أميركياً بصعود روسي قسري وللإيرانيين وحزب الله دور أساسي فيه، لأنهم مهّدوا له بدعمهم الكبير المسبق للدولة السورية.
هناك إذاً، دولة سورية يشتدّ ساعدها، وصعود روسي خارق يتوثب للانطلاق نحو الإقليم، وأميركيون يجهدون لوقفه عند الحدود السورية العراقية والسورية الأردنية.
وهناك حلف مقاومة يربط بين لبنان واليمن متعاوناً مع الدولة السورية وإمكانات إيران الهائلة التي يحاولون عرقلتها بالاستمرار في حصار ومقاطعة مع تحريض مكوّناتها العرقية..
لجهة الإقليم، فهناك «إسرائيل» التي كانت تستغلّ انتشار نفوذ الإرهابيين على الأرض السورية فتدعمهم بقصف مواقع للجيش السوري وحزب الله والإيرانيين. وكانت تزوّدهم مباشرة بالأسلحة والغذاء والتغطية العسكرية.
أين هي اليوم؟ عادت إلى خط الهدنة كما كان في العام 1974، بعد انهيار مشروعها التفتيتي في سورية. وتواصل تأمين فرار مجموعات غربية كانت تعمل في صفوف الإرهاب على مستوى التخطيط والقيادة.
ماذا عن السعودية؟ تهاوى أيضاً مشروعها في دعم داعش والتنظيمات الإرهابية في سورية والعراق. ما انعكس على موقعها الذي كان كبيراً في العالم الإسلامي.. يكفي القول إنّ آل سعود مضطّرون لدفع معظم رساميلهم لشراء الدعم الأميركي والأوروبي في اليمن والبحرين والصمت الروسي في اليمن وأسواق الطاقة، إلى جانب عقد صفقات مع الصينيين لها رائحة سياسية خبيثة شبيهة بالرشى.
أما مصر، فحوّلها الرؤساء الذين تعاقبوا بعد القائد عبد الناصر بلداً ثانوياً ينتظر مكرمات الخليجيين وبعض المساعدات الأميركية الزهيدة.
فالسادات أطاح النظام العربي العام الضعيف أصلاً باستسلامه لـ»إسرائيل» في «كامب داوود». ومبارك جعل منها خادمة للأميركيين، أما الإخواني مرسي فلم يكن أقلّ سوءاً في انفتاحه على «الإسرائيلي» في خطوة اعتقد أنها تجلب له تأييد الأميركيين.. فكسب هؤلاء لكنه خسر تأييد المصريين. ولإجهاض تغيير حقيقي في مصر قدّم الأميركيون أرض الكنانة للفريق السيسي المكلف بأمن مصر في سجن «كامب ديفيد»، مقابل القليل من «الرز» والدولارات..
لذلك فلا دور للقاهرة في الإقليم العربي، وحتى على خط مرور نهرها الحيوي الاستراتيجي، النيل، الذي تتلاعب بطاقاته المائية، إثيوبيا، وسط عجز مصري عن فعل أيّ شيء.
ماذا عن تركيا؟ يكفي القول إنّ تراجع دور الإخوان المسلمين في المنطقة العربية وخسارتهم مصر لهما من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى انكفاء الدور التركي. فلم يعد لدى انقرة مشروع عثماني أو تركي عابر للحدود ولا مشروع إحياء الخلافة الإسلامية.. وهذا سببه انتصار الدولتين السورية والعراقية ونجاحهما في تحرير معظم أراضيهما.. بمواكبة الصعود الروسي والإيراني الذي قلص كثيراً من حجم العدوانية التركية، ويعمل على إنهائها في إدلب وجيب جرابلس الباب بطرق مختلفة.
نستنتج أنّ الدور التركي تراجع عن مشروع لبناء مؤسسة سياسية موالية له في سورية والعراق إلى محاولات لضرب المشروع الكردي، وإعادة ترميم علاقاته السياسية مع هذين البلدين، إلى جانب سعي لإعادة نصب الإخوان المسلمين في بلاد الشام والعراق في دائرة التفاعلات السياسية المقبولة.
لجهة العراق، فلا يمكنه حالياً أداء دور إقليمي بسبب أوضاعه الداخلية والاحتلال الأميركي الذي نجح بعقد اتفاقيات لتشريع دورها في أرض السواد. وهو بصدد عقد معاهدات جديدة لـ»قوننة» قواعده المنتشرة في العراق، مستغلاً الاضطرابات الاجتماعية المطلبية والخلافات المتواصلة بين مكوّناته.
على مستوى إيران، فإنّ دورها الإقليمي كبير وانتزعته ببراعة من فك الوحش الأميركي بتحالفات تمتدّ من آسيا الوسطى إلى شبه جزيرة العرب فالعراق وبلاد الشام.. لكن أساسه المحوري هو سورية وحزب الله.
لذلك بوسع إيران الاستمرار في دورها الإقليمي بالتحالف مع سورية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية بشكل تكاملي وليس كمنفرد!
يبدو في محصلة التقويم المنطقي أنّ الحلف الأميركي السعودي «الإسرائيلي» لا ينفكّ يتراجع مقابل تقدّم للدولة السورية مع حليفيها الروسي والإيراني، من دون نسيان حزب الله الجاهز دائماً لنصرة سورية.
واستناداً إلى أنّ المشروع الروسي يريد التقدّم في آفاق الإقليم، فلا إمكانية له إلا من خلال الدور العربي لسورية، الوجوه التي تستطيع الحوار مع العراق والتأثير على لبنان والتحالف مع اليمن، وجذب دول عربية متردّدة تحتاج إلى نصرة دول عربية بوسعها رفض الإملاءات الأميركية.
لذلك فدمشق هي المؤهّلة لإعادة ترميم تدريجي لنظام عربي جديد يستند إلى روسيا من جهة، وإيران من جهة أخرى، جاذباً الصين إلى رحابه بالقدرة على استعمال قوّتين: الغاز الموجود بغزارة في إيران وسورية ولبنان، والقدرة على استهلاك السلع الصينية.
وهذا ما يؤكد أنّ سورية قادرة على أداء دور إقليمي حتى في مرحلة إعادة الإعمار لأنها بدورها وسيلة لجذب الدول الكبيرة الشرهة للتعاملات الاقتصادية.
انتظروا الشام فموعدها مع الإقليم لم يعد بعيداً.