فيض من براثن اللون وانحناءات الحروف في مسيرة الشاعرة غدير حدادين الفنّية
رنا صادق
«الشعر حالة وجدانية إنسانية تثير في دواخلنا الرغبة بالبوح الشفيف، الذي يبعدنا قليلاً أو كثيراً عن الواقع، لنرى هذا الواقع بأبعاد مختلفة ومن زوايا غير معتادة، وهكذا يصنع الشعر واقعه الخاص به».
مفردات أبت عبرها الشاعرة غدير حدادين أن تعرفني بمنظورها للشعر، لتكتسب من خلاله صفة «شارعة الأفق» التي لا تحدّها قيود أو حواجز، وما بينها وبين القصيدة بوح غير اعتيادي له طابع خاص بها.
تسكن سحاب الكلمة وتتنهد عطر الشعر بمدركاته ومعارفه ومكنوناته، هو الشعر الذي يطيب في نفسها الحال ويصلح في روحها كل شاغل. الشاعرة والتشكيلية الأردنية غدير حدادين تمتزج بروحية الطفلة وألفة الشاعرة في ظمأ الحبّ والحنين.
لها في الشعر خطوات منفتحة على الأفق، ولها في الوراثة مكنونات الإبداع والفنّ، ترجع لأصل فنّي إبداعي ترك لديها ولعاً في الفنون، ترجمتها وما زالت على مرّ السنين.
تفاصيل بداياتها ومكنونات قصائدها وعوالم إلهامها كلّ هذه المواضيع وأكثر تطرّقت إليها «البناء» في حديثها مع الشاعرة غدير حدادين. وفيما يلي حوار اللقاء.
«أنا أكتب كي أتنفَّس، أقول الكلمة تعبيراً عن هواجسي التي تتشكل صوراً شعرية أرسمها بوقع الحياة في لغتي وبنبضات القلب. الشعر بمفهومي يعكس ثقافة الشاعر والبيئة الاجتماعية الإنسانية التي صنعته، يعكس مستوى الإدراك والوعي والمخزون الثقافي والتجربة الحياتيه العميقة. فلكلٍّ منا تجربته الخاصة»، تقول حدادين جواباً على سؤال ما هو الشعر بالنسبة إليها.
وتضيف: رسالتي الوحيدة في أشعاري هي الإنسان، فأنا أكتب للحب والخير والجمال والوطن، مربع الضوء في نصوصي الشعرية الذي أسعى للتعبير عنه بكل ما لديّ من طاقة لغوية وفنية أدبية.
محاكاة وبساطة
بداياتها مع الشعر والكتابة حطّت ببساطة وعفوية، حيث تعترف أنها أصبحت شاعرة وفنانه تشكيليّة دون تخطيط ويمكن القول بمحض الصدفة، فوالدها فنان تشكيلي معروف وهو سعيد حدادين، وتنتمي لأسرة تحب الثقافة والعلم والفن.
حيث تقول حدادين: طفولتي مليئة بالألوان والموسيقى والمسرح والغناء والشعر، كنت أريد أن أعبر عن نفسي، وحين كبرت شعرت بالرغبة أكثر في التعبير عن آرائي ومواقفي حول قضايا الإنسان، ومنها قضية المرأة ووضعها في مجتمعنا، فبدأت أصرخ بأصابعي.
فيض العاطفة ممزوج بصدق الإحساس واضح في قصائد الشاعرة حدادين وترى أن لا شك أن الإنسان كيان من عقل وعاطفة وروح ووجدان، ولا يمكن فصل أيٍّ من هذه المكونات والتعامل مع الإنسان على أنه عقل فقط أو عاطفة فقط، فالجانبان مهمان وضروريان في كل شؤون الحياة، ومَن ينغمس في الشعر والفن يدرك عظمة الخالق في هذا التكوين ويسعى بإخلاص للتعبير عن هذه الكينونة الجميلة. ومن هنا ينبع الصدق، الصدق مع النفس أولاً، والصدق مع الحياة الذي يُنتِج الحكمة، وفي الوقت نفسه احترام العاطفة والارتقاء بها تعبيراً وسلوكاً لتكون للإنسان المبدع بشكل خاص قيمة ذات معنى، وإلا فإن الشعر والفن عموماً يبقيان مجرد تعابير بأشكال وكلمات خالية من الروح والمضمون وكأنها محدودة بمساحة لا تتجاوز حجم لافتة على الطريق يمر بها الناس وقد يلمحونها وقد لا يرونها مطلقاً، ولن تصل معانيها إلى قلوبهم أو تعيش في وجداناتهم. الصدق ليس حالة بل هو عنوان حياة المبدع في سعيه لاكتشاف حقائق الجمال.
شعرٌ وولادة…
غالباً ما يستمدّ الشعراء إلهامهم من تفاصيل الحياة وأحداثها، أما حدادين فتلتقط إلهامها من تفاصيل صغيرة كقطرة مطر تلامس زجاج النافذة صباحاً، أو ربما رائحة قهوة تعيد لها ذكرى معينة، فتبدأ الكلمات بالتدفّق حتى تكتمل.
وتضيف: الحالة الشعورية هي التي توجهني نحو الكتابة، أحياناً ألتزم الصمت، وبعد هذا الصمت تكون ولادة جديدة بلونٍ مختلف. الموضوعات هي التي تختارني، فتبحث عني مع تفاصيلها كي أرسمها بلمسة الشعر.
جمعت ما بين الكتابة والتشكيل والرياضة وتشير إلى ذلك متسلحةً بمقولة لجبران خليل جبران: «العمل المقرون بالمحبة، هو أن تضع في كل عمل من أعمالك لمسة من روحك».
وتقول: أجدني بين براثن اللون وانحناءات الحروف أسافر عبر الأفق إلى حيث أحقق ذاتي الإنسانية شعراً أو فناً تشكيلياً أو رياضة روحية أو عملية.
مهرجان «شبيب»
تقول عن مشاركتها بمهرجان «شبيب»: كان لي الشرف أن أشارك في هذا المهرجان العريق الذي يحتفي بالأصالة، وأن أكون ضيفة الافتتاح، ومن خلاله تمّت قراءة قصائد تتغنى بالوطن ومدى المحبة والانتماء له، فأقول فمن يبدأ بالحب ينتهي به، تماماً كما يبدأ بالوطن وينتهي به. وفي نهاية المهرجان قامت إدارة المهرجان بتكريمي.
قصيدة «أنت» فيها فيض من التكثيف والمشاعر، حيث تقول عنها: القصيدة مثل الحياة، فالحياة بالنسبة لي صراع دائم، وحرب أستلذّ خوضها، فالحب هو الحياة، وحين أتناول الحب في قصائدي كمن يتناول جرعة روحانية جميلة. فالحب الراقي السامي الشفاف يجعلنا نشعر أن هناك عالماً أبعد من عالمنا، أنقى وأرقى.
بين المرأة والرجل… لا تضادّ
وتضيف: لا أعترف بفكرة التضاد بين رجل وامرأة تقوم على الصراع وتتخذ أشكالاً من العدائية. فالبشرية نتاج رجل وامرأة، وكذلك نواة المجتمع الأسرة، والأدوار مرتبة بينهما بما يؤدي لاستمرار الحياة وإعمار الأرض، وتحقيق الأمان والاطمئنان لأفراد المجتمع من خلال الحنان والمحبة والتآلف، وفي كل المجتمعات حتى البدائية منها هناك دور للمرأة ومثله للرجل جوهره التعاون، والقضية ليست قضية هذا الطرف أو ذاك بقدر ما هي قضية الإنسان. من هنا أنظر إلى الرجل كزوج شريك، ومعين كأخ، وملجأ عطف كأب، وصديق على مبدأ الاحترام والصدق.
قصيدة النثر… لغة الشعر الجديدة
يميل شعراء العصر نحو قصيدة النثر لأسباب عدة من التحرر، ومنها التكثيف، حيث تقول حدادين عن ذلك: لكل عصر وزمان لغته وطرقه التعبيرية، والآداب والفنون ومنها أدبنا العربي سلسلة من التعابير عن عصور مختلفة لها ظروفها وأساليبها التي عبر بها الأدباء والشعراء والفنانون عن تجاربهم والحياة التي عاشوها خلال تلك العصور. وقصيدة النثر لم تأتِ من فراغ وإنْ كان منشأ انطلاقها في الغرب، ولكن الأدب بوصفه نتاجاً حضارياً فهو يأخذ ويتفاعل ويبتكر. وجيلي الذي قرأ نزار قباني، ونازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، أنسي الحاج، ومحمود درويش، وغيرهم من شعراء الحداثة كما قرأنا الشعر القديم وشعراء القصيدة العمودية فأحببناه وأحببناهم، نجد أنفسنا في لغة الشعر الجديدة التي تسعها قصيدة النثر وتعبر عن عصرنا الذي نعيش بما يناسبه من أفكار التجديد والحرية والتجريب المدروس لا العشوائي أو الفوضوي. وفي رحاب القصيدة النثرية شاءت الشاعرة غدير حدادين أن تطفئ في قلبها لهيب الحب لمدينة بيروت في قصيدتها «بيروت»:
«كم هو رائعٌ غيابُكَ
بيروتُ ابنةُ الماءِ توقظُ المطرَ ولا تنامْ..
البحرُ من أمامي أسئلةٌ لا تنتهي
كأسُ الماءِ على منضدتي شهوةٌ أتسلّى بتأجيلها
والدَّمعُ صديقٌ أُحاولُ ألَّا أُزعجَ غفوتهُ..
كم أتمناكَ معي،
كم هو رائعٌ غيابُكَ في حضورِ بيروتْ!
لا تخلو الأرصفةُ تماماً
لا يمتلئُ القلبُ بشيءٍ غيرِكَ
ويدانا لا تلتقيانِ ولا تفترقانِ
كنسيمٍ يلعبُ مع زهرةْ!
تحتَ المطرِ سأصرخُ باسمِكَ
أخمِشُ وجهَ الريحِ
أُنادي أينَكَ
أترُكُ خَطْوي فوقَ رصيفٍ يشهقُ
علَّكَ تأتي
فأغيبُ بصوتِكْ..
تحتَ المطرِ على كتفِ «الروشةِ»
أمشي نحوَ ظلالِكَ
أتوغَّلُ في الأزرقِ
وبيروتُ ابنةُ الماءِ وداليةُ الحُبِّ
تواصلُ رسمكَ
تتفنَّنُ في محويَ شيئاً فشيئاً كغيمةٍ
فأصيرُ امرأةً تُمطرُ،
كم هو رائعٌ غيابكَ في حضورِ بيروتْ»!
«بُحة الروح»… أسئلة أحلام وأغنيات
معرضها الأخير «بُحة الروح» جاء فرصة وتجربة للخوض في الوعي، فحين تدور الفكرة حول المرأة تنهض أسئلة كثيرة، أحلام وأغنيات، كما تحضر أيضاً أثقال وقيود، بحسب حدادين».
وتضيف: لهذا وجدت نفسي وأنا أغامر في أعمال «بُحة الروح» أعيد مقاربة ذاتي كإمرأة وكيف يمكن أن أعبر عن بعض الأبعاد والأسئلة الكثيرة التي تطرحها المرأة من خلال الألوان والحركة في المساحات.
«سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق»
وعن مجموعتها الشعرية «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق»، قالت: «هي مجموعتي الشعرية الثالثة يتحرك خوفي وأحلامي في سياق حركة وعي العاطفة المسكونة بالخيار الحر ما بين الذات والآخر، وأحياناً ما بين الذات والفكرة والشعور، ولكن في كل الأحوال بقيت ملتزمة بمعادلة أو ثنائية «أنا أنت» في الغالب ووجهاً لوجه، من خلال أسلوب الأنثى المتكلم والرجل المخاطب، وهذا الالتزام والإصرار يحمل شحنة خاصة تتميّز بها نصوص مجموعتي».