سرّ الماء… طهارة المدن النساء!
طلال مرتضى
توّاً عدت من جولة طويلة، مشيت كيلومترات عدّة هكذا على هوى روحي من غير دليل، رفقة الماء أنيسة حدّ هدوء الحواس، فكلّ العكر الذي يعبرني خلال مسيري ما هو إلا عصارة لأدران الطريق الطويلة، لعلّي مثل معتوه حقّق نصراً مزيّفاً لا قيمة له بعدما اكتشف سرّ الماء على حين غفلة من غيابه في تفاصيل إرثه العتيق الذي بقي معه مثل لازمة نشيد أو ترديدة يعودها الهائم على وجهه كلّما دنّ في حواسّه جرس الفراغ المقيت. كنت أسألني لماذا هذه المدن نظيفة أكثر ممّا ينبغي، كلّ العواصم التي عبرتها سيراً على الأقدام في رحلة سالفة، نظيفة إلى حدّ يجعلني أمقت المدن التي وسمت بها روحي كدمشق وبيروت..
اليوم عرفتُ سرّها على حين مصادفة. في ما قرأت وفي ما عاينت عيوني من تفاصيل المدينة العتيقة دمشق أو ما نقل بالتواتر قبلا، كان المقال يدلي بنظافة المدينة في ذلك الوقت السالف، وأنا أسترجع العواصم التي زرتها والتي يمرّ بها نهر الدانوب كـبلغراد العاصمة الصربيّة التي تشتهر بحضور «ربّات الجمال» في شوارعها، حيث صلّيت ذات مرّة في ساحتها الكبرى أمام محطّة قطاراتها وقوفاً.
المدينة على الرغم من كلّ العصف الذي لحق بها في السابق إلّا أنّها جميلة جداً ونظيفة وكذلك بودابست العاصمة الهنغارية التي كانت تشكّل رحلة الرعب لكلّ عابري حدود الوجع، هي الأخرى كانت نظيفة حدّ الرخامة وغيرها من المدن الألمانيّة مروراً بمدينة الفكر والنور «فيينا» العاصمة النمساوية والتي لم تزل تتربّع على عرش الجمال منذ سنوات من بين مثيلاتها من العواصم الأوروبيّة..
السرّ في الماء.. سرّ نظافة المدن هذه هو النهر الذي يعبرها مثل وريد أو شريان أبهر، بالتأكيد تكاتف أبناء تلك المدن كلّهم ليجعلوا من هذا الشريان الدافق خطّ حياة يمرّ بصخبه المفتعل دون أن يرهب أوزّة أخذت من ضفافه مسكناً آمناً، يحمل معه بتخفّف أدران الطريق الموحل دون أن يكدّر صفو عاشقين افتعلا مفازاً للملقى عند أحد انعطافاته..
النهر العظيم غسل قلوب البشر هنا من أدرانها وذهب بها بعيداً حيث البحر الأسود الذي يتّسع للكثير.. الكثير والذي لا يكلّ ولا يملّ من مناداته: هل من مزيد؟
لهذا نجد المدن الفاصلة عن بكرة أبيها نظيفة، نظيفة إلى حدّ أنّك قد تشتهي الاستلقاء على أي رصيف من أرصفتها، ولربما تعيا في مرّة ما لأن تجد في ساحة لا على التعيين عقب سيجارة، على سيرة عقب السيجارة وعلى الرغم من أنّني لا أستهويها بالمطلق، إلّا أنّ عادة حملتها معي من البلاد وهي فضولي لرؤية عقب سيجارة مرميّ في بهو الشارع، هوسي هذا هو معرفة المدخن هل كان رجلاً أم أنثى..
بصمة أحمر الشفاه و»المجّة» الأخيرة من السيجارة التي تتركها أنثى عامرة الحواس على عقب سيجارتها يولمان في روحي بألف حريق وحريق، ثمّة رهجة عطر ملتهبة دفقت باب مكتبي الموارب الظلّ من دون موعد مسبق وعلى قول أهلنا، سبقت العطور الحضور، تنبّهت كلّ حواسي حين دهمها الوافد اللامرئي محمّلاً على تفاصيل نسمة دمشقيّة هي أخرى ناعسة.
كان الممرّ المؤدي إلى مكتبي يُفضي إلى الفراغ من حركة المارّة وكانت فترة الهدوء هذه تأخذني إلى مواطن أحبّها، وهي فرصة جميلة ولذيذة أستدعي بها كلّ ارتباكات روحي كي أمارس عادتي المشتهاة من دون رقيب. فالأجواء في هذه الفترة ملائمة تماماً وتحفز الحواس لارتكاب معصية الكتابة. قبل اكتمال طقس القصيدة بشطرين أو أكثر تعثّرت قفلتها عمداً، لا أدري مَن أجفل ملاك الكلام وقت دفق في الممرّ المؤدي لمكتبي بعطر غواية لم يلسّه قبلاً أنفي..
تقول أسطورة إغريقيّة توّاً افتعلتها، لا يمكن لملاكين الاجتماع في نقطة واحدة، تعلّل الأسطورة ذاتها، كي لا يكسر أيّ منهما رتم حضور الآخر، لهذا غادر ملاك شعري في هذه اللحظة لتتحقق أسطورتي الإغريقيّة الجديدة. لا أدري ما الذي جعلني أقوم من وراء طاولتي حينها؟ وكأنني أودّ اللحاق به كي أستجديه البقاء إلى حين اكتمال طقس القصيدة، فالرجاء قائم الآن بلهج النداء:
«سوياً
تعالي نفتح باب
الشعر..
وعلى أحرّ من
الحبر
نولم الأفكار..
الفكرة
نائمة شقيّ مَن
أيقظها..
تعالي..
تعالي نفكّ وثاق
القصيدة..
نبدّد
عن نصّنا المفتوح شبهة
التأويل..
وحين تسيل الحبكة
نلوذ بعيداً..
بعيداً وراء بيوت الشعر».
وأنا أعيد من جديد ترتيب فيض العطر الذي دهم مكتبي قبل حضور فيض، فاض نهر القهوة على الرخام الأبيض دونما أيّ انتباه منّا، أي.. فيض.. هي كذلك. قلت هذا في سرّي: فيض.
حين أطلت نظري عبر نافذة المكتب، شمس دمشق كانت ترتكب إثم أفولها، فعلت كعادتها ما كانت تفعله كلّ يوم، رأيتها من مكاني وهي تدلف إلى أيكها المخضّب عند نهاية حيّ المزة الدمشقي لتستقرّ في حديقة ما أو على سرير منبسط لسفح ما عند مدخل مدينة دمشق الغربي حيث هناك سكنها المعتاد.. في الوقت ذاته كانت فيض توقع على فنجان القهوة بأحمر شفاهها أجمل تذكار صادفني خلال السنوات العشر التي قضيتها هنا.
كانت الحكاية ارتجالاً حين نزلت بها نحو ربوة دمشق، تفاصيل كثيرة لم نتطرّق لها أو لربما تناسيناها قصداً كي لا نفسد في ودّ الحالة عطراً، لهذا أجزم بأنّها مثلي رمت حبل قاربها على كاهلي كما رميت حبل قاربي على كاهلها ومشينا دونما إيّة بوصلة تحدّد جهات مسيرنا والتي بتّ متيقّناً بأنّ جهة سمتها الوحيدة هي جهة الجنون..
عند منحدر «قهوة أبو شفيق» لا أدري إن كانت كفّها تعثّرت في كفّي أم العكس، لكنّ الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن نسيانها في تلك اللحظات، هي المعرفة المسبقة بين أصابعي وأصابعها وكأنّهما تفارقتا قبل ألف عطر وعطر والتقوا مجدداً، تيقّنت هذا على حين العناق بينهما وقت تدملج كلّ أصبع حول آخر وكأنّهما أسلاك كهربائية لفّت بعناية حول بعضها البعض، للأصابع الحانية الشهوة لعاب يشبه تماماً رضاب العناقات، تخلّل المسام كي يوحّد ذوبان حريق الملح فيها قبل الوصول إلى فورة الطمي الكبرى.
عند التفاف سكّة الحديد القديمة لقطار الزبداني وتحديداً قبل المدخل الأوّل لمدينة دمّر، لحظة تكاثف الأشجار في هذه الزاوية، تماماً في نقطة ارتباك أضواء السيارات المقبلة إلى دمشق والمغادرة منها إلى جهات عدّة، استطعنا مباغتة حرّاس الجبل، دلفنا إلى الأيك المعتم إلّا من بقايا خرير ماء بقي بين جرفيّ النهر.. خاصرت فيض، كانت ترتدي قميصاً حريرياً ناعماً حدّ اكتشافي أدق التضاريس التي عبرتها يدي ولشدة نعومة ملمسه خفت على يدي من الضياع والسقوط في لجّة النهر البائس، من غير تردّد ركزت سبابتي متهجّياً جغرافيا المكان، إلى أن ركزتها كدليل لطريق العودة في حوض سرّتها المستكين وراء بدعة الحرير.
– أنت تشاغب أيّها الشاعر.. هذا السهب لا يمكنك عبوره إلّا في صور القصائد.
– لكنّك حقيقة.
عند الحقيقة الكامنة جلست فيض فوق حجر صغير، مدّت ساقيها نحو مجرى الماء الشحيح، كانت المسافة بعيدة قليلاً، وحين رفعت تنورتها الرهيفة إلى حدود الركبتين همست:
– تعال.. اقترب.
الأضواء المتفلّتة من بين الأشجار والهاربة من قدر أفولها انعكست مثل رجع مرايا على بياض ساقيّها، في اللحظة ذاتها كنت أسمع في داخلي غليان البراكين الخاملة في أوردتي والتي يشير لبليب أوان انفجارها تحت أيّة همسة عابرة أو لمسة، حين اقتربت بما فيه الكفاية، كان شيطان الحريق يومئ إلي من جديد أن أدلف سهل صدر فيض دون تردّد، هناك من تفاصيل التفاح ما يغني عن ألف، ألف جنّة وجنّة.
إنّها فطرة الحليب الجنونيّة وقت ذهبت مباشرة إلى فتح أزرار الياسمين التي تؤطّر بوابات الصدر بهالات الدانتيل الغارق في إثم العطر.
تسمّرت أصابع كفّيها مثل حراس القصر المقابل لنا وقت تدخلوا باستماتة لصدّ الهجوم المباغت على سهل الدراق.
– توقف عن العبث.. إن هبّ حريقي سيأكل خضرة المكان كلّها وستستحيل وقتها رماداً أيّها الشاعر.
– لا ضير.. يا فيض، دعيني أجسّد أسطورة العنقاء.
– ساعدني في فكّ رباط الصندل اللعين هذا.
لست أدري هل عبرت كفي توّاً.. قطعة رخام مصقول حدّ البراعة في النحت أم قضيباً عاجياً شهيّ الملمس. عندما كنت أقيس حجم فنجان كعبها، صارت فيض، فيضاً آخر رفد خطّ الماء الشحيح الدافق في عروق نهر بردى.
– ألا تودّ النزول إلى الماء؟
– لا، سأبقى بالقرب منك.
– إذاً.. هات يدك وأنت في مكانك.
من جديد أعلنت أصابعنا عناقاً جديداً وكأنّني في لحظتها لم ألمس أنثى من قبل، ثمّة شعور لم أصادف مثله في حياتي ولولا حقيقة دخول فيض إلى مكتبي، لقلت ما أنا به سوى أضغاث حلم عابر أو قصّة سحر، ممّا كانت ترويها لي وقت كنّا صغاراً زوجة عمّي، لكن ما أنا به حقيقة والماء الذي انتقل عبر مسام قدمي فيض وصلني بلّه بكلّ تأكيد.. لم يكن هذا صعباً، ما كان على فيض في تلك اللحظة إلا أن تضغط بسبابتها بطن كفي لتنبجس كلّ ينابيع روحي روافد جديدة لبردى.
– هذا الماء يغسل كلّ شيء أيّها الشاعر الممتلئ.. يأخذ كلّ أدران وجعنا وشهواتنا وحتى الخيانة التي ارتكبناها تواً، ذهبت في تفاصيل النهر من غير شهود إلّا من اللحظة.. ينبغي عليك غسل إثمك الآن.. وتركه يسري على هواه.. لا تجعل عزّة مغزاك تكبر أكثر من إثمنا.
عند تفاصيل مسير النهر أعلاه، ثمّة يد قويّة شدّت بي إلى الماء، فحين أختنق حذائي لافظاً آخر شهقة هواء فيه، همست فيض:
– أشعر بدوار أهرق النيات يجتاح روحي، قف ورائي. دعني أسند ظهري إلى صدرك لحين عودة النور إلى رأسي.
حين ذابت كلمة خاصرني في أذني، تنبّهت لصراخ رجل عابر، رطن سريعاً كلمات ألمانيّة عدّة لم أستطع فهمها كلّها، ما فهمت منها بأنّ الرجل كان ينبّهني ألّا أرمي أيّة فضلات عند ضفة النهر.
– أيّة فضلات.. أنا لم أرم أيّة فضلات هنا؟ قلت للرجل بحدّية.
وقتها أشار إلى الكيس الذي كنت أحمله، بالفعل في الكيس أشياء تخصّني ولكنني لم أرمه هنا بقصد الأذية إنما سقط منّي سهواً وقت شدّتني فيض إلى الماء، نعم سقط من يدي وقت خاصرتها دون أن أعي.
اعتذرت من الرجل الذي ظلّ سائراً في طريقه، وقتها سألتني:
– ماذا لو أنّ أهل دمشق كلّهم حافظوا على بردى مثل أبناء تلك المدن الفاضلة؟
إنّها غيرة الماء جعلت من هذه المدن نظيفة، لماذا ذاب ملح غيرة بردى في مسامه والتي أودت به، لماذا؟
كاتب عربي/ فيينا