رحل هنري حاماتي… ولم يرحل
يحيى جابر
رحل ذلك الرمح القومي الذي لم يهدأ له بال ولا خاطر، وهو منذ شبابه ونعومة أظافره حمل رسالة النهضة ومضى غير عابئ بالمخاطر والصعوبات..
ذهب أحد أبرز رموز الحركة السورية القومية الاجتماعية.. وهو يعضّ على جراحه، كغيره كثيرين رفعوا راية الحق والخير والجمال، والواجب والنظام والقوة، ومضوا على طريق المعلم الذي لا يزال يصدح بتعاليمه ومبادئه وقيادته وقدوته وتراثه ودمه، قائلاً: «أنا أموت أما حزبي فباق».
وقفات العزّ لم تفارقه يوماً، وهو لم يركع ولم يخنع، ومضى في مسيرته مرفوع الرأس عالي الجبين موفور الكرامة، وقد ترك وراءه إرثاً يستحق أن يقف عنده الجميع، وهو إرث فكري نضالي سلوكي أخلاقي لم يعرف التردّد ولا السأم ولا الملل ولا الخنوع ولا التسليم ولا الاستسلام للأمر الواقع..
إرثٌ بقي ينبض على وقع ما في قلب ووجدان وضمير هذا الرجل من حياة، فمضى وهو يرفع يمينه قائلاً: «سجل أنا قومي»، وقد انتصرت معه العين على المخرز، وهزأ دمه من سيوف الجزارين وطعناتهم في الظهر..
ذهب هنري حاماتي ومنذ سنين ترك الوطن مقهوراً مجبراً، وليس مختاراً، ذهب والدمع في عينه يتلألأ والامتعاض يأخذ منه، كما والاحتجاج والاستنكار، لما آلت إليه الأوضاع، ولم يستيقظ الوطن الذي أمضى حياته وشبابه وكهولته في خدمته، تاركاً لنا إرثاً بالغ الأهمية مليئاً، بالأوجاع كما بالدوروس والعبر، وهو الذي لم يرض بعيشة الذلّ والإهانة أياً كان مصدرها.
رحل هنري حاماتي، وقد أخذ قلمه معه وقد انكسرت الأقلام من بعده، أو كادت تنكسر حسرة عليه..
ما سمعت هنري حاماتي يوماً، وما قرأت له نصّاً ولا كلمة، إلا وأيقظ فيّ ذكريات الماضي، بأوجاعها وفرحها وآمالها، ونحن نمسك بأيدي بعضنا البعض بهدف الخروج من الظلمة إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الفوضى والبلبلة إلى الوضوح والجلاء واليقين، ولكم شعرنا بشرايين إيماننا بالنهضة تمدّنا بكلّ أسباب الوجود والبقاء والمضيّ في مسيرة النهوض، بأمة تعاني الأمرّين.
أيها الحبيب هنري..
أعرف أنك لا ترغب المغادرة، وأنت تمسك بعرين قضيتك، كما بعرين قلمك وجرأتك وصدقك ووفائك، وتودِعنا دمك مداداً لخدمة القضية التي تساوي وجودنا كلّ وجودنا.
يا أحلى كلمة، ويا أحلى أمل، ويا أعز رفيق، وصديق، يا من رحلت ولم ترحل، وأنت باق في قلوبنا وعقولنا وضمائرنا إلى أبد الآبدين، ويمينك مرفوعة إلى الأعلى تحيّي أمتك ونهضتك، وأنت تقول: «كلنا مسلمون لله رب العالمين، منا من أسلم لله بالأنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، وليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا إلا اليهود…»