غضب الراعي وقلق الرعيّة
فهد الباشا
ما قيل ولا يزالُ مثلُه يُقال، تعقيباً على مواقف البطريرك الراعي، يتجاوزُ في عواقبه، في كمّه وفي نوعه، ما قاله ولا يزال يقوله البطريرك، تصريحاً وتلميحاً، وذلك منذ ارتقائه السدّة البطريركية، وتحديداً، بدءاً من تصريحه الشهير على مدخل الإليزيه، مع ما استتبعه ذلك من تشنيع في كتاب القوّاتي بصبوص، وصولاً إلى التشهير الأخير بالنواب العاجزين عن انتخاب رئيس للجمهورية المتهالكة في بؤر فسادٍ عزّ نظيره في عصور الظلمات.
المتضرّرون ممّا قاله البطريرك، لا سيما الموارنة، يتساءلون مستجهلين: هل بلغ الوضع، فعلاً، هذا المبلغ من الخطورة؟ أم هو الراعي بالغ في التعبير عما آل إليه الحال؟ لكنّ أحداً لم يسأل عن حاجة الراعي إلى مبالغة ومغالاة.
آثر رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، الواثق من صحة موقفه والذي يعتبر نفسه جبلاً لا تهزّه الرياح، عدم الأخذ والردّ. وحده من بين المعنيين بحملة الراعي، ردّ رئيس تيار المرده سليمان فرنجية، على عادته، غير موارب ولا مداور بأنّ الفراغ الإسمي في موقع الرئاسة ليس بأشدّ ضرراً أو خطراً من الفراغ المموّه برئيس يبتدئ استجداءً للموقع، مقاوماً، وينتصف عهده متردداً، لينتهي مقاولاً، يُقال فيه ما لا يليق بسمسار مخادع!
أمّا المتأدبون من المتضرّرين المتدلسين، فيتساءلون عمّا إذا كان الراعي يعتبرهم عمياناً، ممهّدين بذلك، من دون قصد منهم، للردّ الرعوي الإنجيلي: «لو كنتم عمياناً لما كان عليكم عتب، أما وأنكم تقولون إنكم تبصرون وتعرفون ما تفعلون فخطيئتكم إذاً ثابتة». الراعي الصالح يعرف خرافه وخرافه تعرف صوته، هي الآية التي ينطلق منها الراعي مستهدياً. هذه المرة لم يترك كلامه مجالاً للحيرة. فإذا كانت تصاريحه سابقاً تتأرجح بين هوى، يحملها مرة صوب عون ومرات صوب جعجع، فهذه المرة أصاب الغضب جميعهم وشبه اللعنة حلّ شاملاً، لا سيما حين بلغت حدّته وهو في أوستراليا حدّاً استعاد معه تعابير ومفردات بعينها، كان المسيح قد قالها، ذات غضبٍ عاصف، في الذين جعلوا بيته مغارة للصوص ولأبناء الخراب.
الرعاة هم هم، في غضبهم، وفي رضاهم، أهل حضر رعوا أم ماشية يرعون. والراعي، يغضب، عادة في إحدى مرّتين: مرةً، إذا تعرّضت لهجوم الذئاب رعيّته ومرة حين يرى الرعية تمشي على شفير، فينتهرها محذّراً، لكنها تستمر ماشية باتجاه الهاوية وكأنها لا تعرف صوته… كأنه أجير… وغضب البطريرك، هذه الأيام، هو للسببين معاً، وربما لأسبابٍ لا يعرفها إلا هو والراسخون في علم لعبة الأمم، وألاعيب كبارها والصغار. وربّما، أيضاً لخوفٍ كامن من أن يضيع على بطريرك الموارنة مجدٌ كان التقليد أعطاه إيّاه آية مستعارة من «أشعيا» لترفع شعاراً فوق عتبة الصرح في بكركي: «مجد لبنان أعطي له». من هنا، من هذه الأسباب مجتمعة كان الغضب ساطعاً وكبيراً إلى حدّ تشبيهه السياسيين، ولا سيما الموارنة منهم بـ»داعش» هذه تقطع بهمجية، رؤوس الناس والساسة يقطعون، بامتناعهم عن انتخاب الرئيس رأس الرئاسة. فما العمل وما في اليد حيلة سوى رفع الصوت؟ البطريرك يعرف أنّ رفع الصوت، ولو عالياً، لا يرفع خطراً عمّن تحيط به الأخطار… قد ينبّه الصوت من وقوع الخطر، هذا لو بقيت للناس، وسط صخاب الفضائح والبلايا، آذان تقوى على السمع. لكنّ الصوت المرتفع هذا، يزيد، في تجاوز حدوده الشعور بالخطر، يزيد الخطر. وهذا ما تركه في نفوس الكثيرين صوت البطريرك المواصل ارتفاعه غاضباً، من كل فضائية يطل منها، ومن أيّ فضاء اغترابي حل فيه، خلال تطوافه الرعوي الطويل. فالقاعدة عند الناس، ولا سيما من هم في المغتربات، هي أنّ البطريرك في موقع العليم بما يحوكه للمنطقة تحالف الشر المنظم. علماً أنّ ما من خفيٍ إلاّ وأعلنته أفعال «الداعشيين»، على اختلاف أسمائهم الحقيقية والمستعارة والتي قد لا تخطر على بال بشر.
من هنا، كلّما ارتفع صوت البطريرك غاضباً، ارتفع قلق الرعية، وانقضّت عليها تداهمها أسئلة حول المصير، لا سيما أنّ مآسي التاريخ وأهواله لم يكد يمر عليها زمن كافٍ لمحوها من الذاكرة، حتى تستعاد مشاهدها مكرّرة حية في حاضر مفجع، لا منسوخة من ماضٍ قريب أو بعيد…
وما يصحّ هنا، على راعي رعية بعينها، يصحّ على سائر الرعاة والرعايا ـ الضحايا. الأزمة شاملة كاملة، وليس من حلٍّ لها إلاّ شاملاً. فكيف يحلّها الحلاّل، إذا كان المنطلق أنّ «كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» دون سواها؟ فهل يجوز بعد مرّ التجارب وهول المصائب، أن يغفل العاملون للخلاص عن حقيقة أنّ الرعايات، ولو مجتمعة تحت خيمة «عيش مشترك»، لا تساوي إلاّ عدداً من المراعي، ومجموعة من الحظائر، لكنها لا تصنع في حال من الأحوال وطناً. لن يكون وطن إلا بمواطنين، لا برعايا بمواطنين ينتظمون، في مفاصل حياتهم كلها، تحت مظلة قانون واحد في الحقوق والواجبات. وما دون ذلك، لا يظننّ راعٍ أنه بالغ في الرعية مرتجى وخلاصاً، من دون ذلك لا يتعبنّ راعٍ، مهما علّى بالغضب صوته، ما دون ذلك، باطل الأباطيل وقبض الريح، وعند كل منعطفٍ خطر اصطدام حادّ بـ«إسرائيل» و«داعش».