أميركا في مواجهة إيران: ماذا بعد الفشل الأوّلي؟
العميد د. أمين محمد حطيط
يكاد العالم يحبس أنفاسه وهو ينتظر أحد صوتين: صوت جرس هاتف ترامب يرنّ ويكون المتصل من المسؤولين الإيرانيين ليسجل ترامب انتصاراً في استراتيجية الضغط التصاعدي المرغِم للخصم على الخضوع والإذعان، أو صوت القذائف الأميركية المتعددة الأنواع والعيارات والأحجام تنهار على إيران لتدمير إرادتها قبل تدمير حجرها وقتل بشرها. فأميركا التي منّت النفس بإرغام إيران على الإذعان نتيجة الحرب الاقتصادية الظالمة والخانقة التي بدأتها ضدّها منذ سنة تقريباً تشعر الآن بالضيق لأنّ إيران استمرّت صامدة متمسكة بحقوقها وكرامتها الوطنية لا يرهبها تهويل أو أكثر منه.
لقد باتت أميركا بحاجة لأحد هذين الصوتين هاتف او مدفع وما سيترتب عليهما من سلوك إيراني يصبّ في مصلحتها في معرض سعيها إلى تهيئة البيئة الاستراتيجية والعملانية والسياسية في المنطقة للإعلان عن تصفية القرن التي تتحضّر أميركا لإطلاقها والإعلان عن مضمونها في النصف الثاني من حزيران/ يونيو المقبل، والتي ترى أميركا أنّ سكوت إيران أو تعطيل معارضتها لها شرط لا بدّ منه لنجاحها. وفضلاً عن ذلك فإنّ أميركا تحمّل إيران ومحور المقاومة مسؤولية مساندة سورية للصمود وهزيمة العدوان الكوني الذي استهدفها، والذي كانت أميركا تعوّل عليه لاستباحة غربي آسيا وشمالي أفريقيا والسيطرة بعد ذلك على العالم كله في إطار نظام أحادي القطبيّة تسعى إليه.
إذن… خضوع إيران واستسلامها للإرادة الأميركية بات مهمّاً للغاية في الحساب الأميركي خاصة بعد أن توصلت أميركا في الحقبة الأخيرة الى حصر أعدائها الأساسيين بثلاثة وتشكلت لديها قناعة نهائية انّ هؤلاء الثلاثة يعتمدون سياسات ومواقف تعطّل عليها سعيها الى قيادة العالم والتحكم بثرواته، وصنفتهم بالترتيب التالي: الصين أولاً ثم روسيا وإيران، وترى أميركا انّ البدء في مواجهة إيران وإخضاعها سيشكل قفزة نوعية لها في مواجهتها لكلّ من روسيا والصين، وترى أنّ سقوط إيران سيُغنيها عن مواجهة روسيا لأنّ هذا الأمر سيمكّنها من إكمال حلقة الحصار على روسيا وعزلها وجعلها واهنة استراتيجياً. من هنا تأتي أهمية حرب أميركا على إيران، الحرب التي تتمنّى أميركا أن تبقى في الإطار الاقتصادي على حدّ ما قال ترامب مؤخراً، وأن تحقق لها ما تريد دون الحاجة الى الحديد والنار.
فالمواجهة الحالية بين أميركا وإيران ليست شأناً عابراً، أو خلافاً نشأ عفواً أو صدفة، بل هو صراع تمتدّ جذوره إلى يوم نجاح الثورة الإسلامية في إيران وتتصاعد أهميته ربطاً بالمتغيّرات الدولية وتصنيف دول العالم بين عدوّ او تابع لأميركا، ونكاد نقول إنّ المواجهة مع إيران باتت في ذهن غلاة الصقور الأميركيين اليوم مسألة استراتيجية عليا لا تعلوها مسألة، وإنها قضية يترتب على نتائجها تحديد وجهة العلاقات الدولية وموقع أميركا فيها مستقبلاً.
لكن المأزق الأميركي يبدو اليوم أكبر مما توقعت أو ظنّت الفئة المسؤولة التي دفعت بالأمور الى هذا الحدّ، مأزق يتمثل بأمرين اثنين:
ـ الأول فشل الحرب الاقتصادية حتى الآن في اقتياد إيران الى طاولة الإذعان لأميركا والاستسلام لمشيئتها، وبالتالي فإنّ صوت جرس الهاتف كما يبدو ويؤكد المسؤولون الإيرانيون، لم ولن يأتي مهما طال انتظار ترامب ومعاونيه، فإيران تملك من العنفوان والكرامة الوطنية والثقة بالحق وبالنفس وبقوّتها ما يمنعها من الاتصال والذهاب الى تفاوض الإذعان.
ـ أما الثاني فيتمثل في خشية أميركا من الدخول في حرب مع إيران لا تحقق النتائج المرجوّة في مهلة معقولة، خاصة أنّ هناك عناصر رئيسية تبرّر هذه الخشية وتلزم أميركا بالحدّ من الاندفاع في الحرب النفسية التي بدأتها وجعلت الأمور عبرها تتحرك على حافة الهاوية، دون أن تكون هناك ضمانات أكيدة لإبقاء الوضع تحت السيطرة ومنع الانزلاق الى الحرب الحقيقة الواسعة.
فأميركا رغم كلّ ما تملك من قدرات عسكرية هائلة، ورغم ما يظنّ أنها قادرة على زجّه في الميدان ضدّ إيران في أيّ حرب تشنّها عليها، أميركا هذه تعلم حقائق مرعبة عن القدرات الإيرانية العسكرية الذاتية والتحالفية، كما أنها تعلم أنّ مسألة حسم الحرب وفرض الاستسلام على إيران أمر ليس سهلاً او مؤكداً، لا بل قد يكون المؤكد غرق أميركا وأتباعها في المنطقة في وحول حرب استنزاف لا تتوقف ولا تنتهي إلا باقتلاع المصالح الغربية من المنطقة.
وإضافة الى ذلك فإنّ أميركا تعلم أنّ احتمال تساقط أتباعها في المنطقة إذا لم تحسم الحرب في مهلة قصيرة، هو احتمال مرجّح حيث سيكون أشبه بتساقط أحجار الدومينو، ثم أنّ أميركا تعلم أنّ صيغة التحالفات الدولية القوية التي استندت اليها في حروبها الأخيرة في الخليج وأفغانستان والى حدّ ما في العراق، انّ هذه الصيغة ليست في متناول يدها بعد أن أبدت أوروبا رفضها للسياسة الأميركية حيال إيران وعدم استعدادها لحرب مع إيران، وانسحبت مصر من الناتو العربي ووهن مَن تبقى معها جاهز للحرب.
لكلّ ما تقدّم، باتت فكرة الحرب كابوساً لأميركا وليس كما يروّج البعض ممن يشتهونها ويقولون بأنها باتت الحلّ الوحيد والسريع الذي ستلجأ إليه أميركا للسيطرة على المنطقة برمّتها.
وعليه… نرى انّ أميركا التي تهدّد وتزبد وترعد هي في الحقيقة تخشى الحرب أكثر من أيّ وقت مضى، لأنها غير واثقة من تحقيق المطلوب فيها، لا بل إنها قد تذهب هيبتها وتوقع فيها خسائر لا تقدّر الآن أحجامها، وتعطل مفاعيل الحرب الاقتصادية التي تشنها على أعدائها دون هوادة خاصة الصين وروسيا ومحور المقاومة حرباً لا يمكن التكهّن بنهايتها نظراً لعجز أميركا عن حسمها مهما امتلكت من قوة لأنها حرب من أجيال مركبة بين الثالث والخامس مروراً بالرابع وهي تعلم أنّ التأخر في حسمها سيفاقم من خسائرها الى الحدّ الذي يجعلنا نقول إنّ حجمها سيكون في حجم أكبر من أيّ حرب سبقت، ثم لا ننسى انّ هذه الحرب اذا وقعت فستكون متزامنة مع مواجهات أخرى تنخرط فيها أميركا مع كلّ من الصين وروسيا وكوريا الشمالية، مواجهات لم تستطع أميركا أن تحقق في أيّ منها شيئاً مما تطلبه ما يمكن من القول بأنها حتى الآن فاشلة على تلك الجبهات.
ومن جهة أخرى ستجد أميركا أنّ التراجع عن الحرب سيكون فيه خسارة أيضاً خاصة أنه يكشف الثغرات في الوضع الأميركي ما يمكّن الأعداء من استغلال هذه الثغرات والتشدد في مواجهتها مستقبلاً، ما يعني أنّ قرار التراجع عن الحرب هو كقرار مؤلم لا يخلو من خسائر. وهنا يطرح السؤال أيّ السبل ستسلك أميركا؟
لقد أدركت أميركا الآن انّ إخضاع إيران ليس بالأمر السهل وأنه غير ممكن الآن وعلى أيّ من السبيلين حرب اقتصادية او حرب نارية ، وعليها أن لا تراهن او تنتظر سماع أيّ من الصوتين اللذين تنتظر!؟ وأنها ليست في موقع تختار فيه أيّاً من الأرباح تحقق، بل هي في موقع ونقولها بكلّ ثقة، باتت في موقع يفرض عليها اعتماد سياسة تحديد الخسائر وهي السياسة التي يلجأ اليها كلّ من فاته سوق الربح الأكيد ودخل في مرحلة العجز والكساد وتشتّت الحلفاء والأصدقاء عنه، والحرب تفاقم الخسارة طبعاً لذا فإنها في المنطق السليم تعتبر حتى اللحظة مستبعدة رغم قرع طبولها والصخب والقمم والتحشيدات التي تجري من أجلها.
وهكذا نجد أنّ إيران ببراعتها في إدارة المواجهة مع أميركا منذ أن انسحب ترامب من الاتفاق النووي معها، ربحت حتى الآن بما اظهرته من قوة وعنفوان وجنّبت المنطقة والعالم حتى الان حرباً تدميرية كبرى فكان أداؤها مصداقاً للقاعدة الشهيرة «اذا أردت السلام فاستعدّ للحرب»، أما دعاة الضعف والارتهان كما والذين لا زالوا يلهثون وراء حروبهم الفاشلة فإنهم لن يجنوا من الأمر إلا الخسائر المادية والمعنوية وعلى شتى الصعد والأشكال ولن تسعفهم قمم تعقد للتحشيد للحروب فهم وقممهم أعجز من أن يدخلوا حرباً ينتصرون فيها.
أستاذ جامعي وباحث استراتيجي.