محمود غزالي.. لا تشبه سوى نفسك
نظام مارديني
ما إن بلغني نبأ وفاة صاحب «مواسم الزنبق»، الأمين محمود غزالي، حتى فتحتُ سجلات الماضي أقرؤها من جديد وكأنّني أردت، بهذه القراءة والعودة بالزمن، أن أسمع، من خلال صوته، وهو يحتضن شغفي بالصحافة والعمل بها..، كما أردت أن أبصرَ ضوء روحه وأتناسى هذا النبأ.. فاللقاءات الكثيرة والعديدة التي جمعتني بالأمين الراحل ظلّت حاضرة في الذاكرة ولم تغب يوماً، إذ مكنتني من تلمس طريقي إلى عالم الصحافة التي أعطاني دروسها الأولى القاسية، الرفيق علي عمران في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، وبهذه المرحلة كان الأمين غزالي مختلفاً عن كل رموز الإعلام والصحافة الذين عرفت، ولتؤكد انتسابنا معاً إلى أفقٍ واحد، أفق «القومنة» الإنسانية.. فمن «البناء» أمسك بيدي وأخذني الى جريدة الشرق لصاحبها عوني الكعكي ، ومنها إلى مجلة الصناعة والاقتصاد لصاحبها الأمين فارس سعد ، حيث استقال هو وتسلمت من بعده إدارة تحريرها حتى ساعة إنهائي العمل فيها اليوم أول تموز.
هو واحد من الذين ظلّ أفقهم القومي مفتوحاً على مشارفها السوريانية، مشدوداً الى همّ الأكثرية الصامتة التي لم تجد سبيلاً للحفاظ على كرامتها، وما يمكن من سويّتها الإنسانية، سوى الركون لصمتٍ حزينٍ مُدمّى، ولكنه بقي متحزباً لهمّه القومي السوري، رغم عدم تراجعٍ الأمل في الإمساك بخيط المرتجى الذي كاد يضيع مع كل إشراقة شمسٍ جديدة، لولا حفنة من المقاومين الذي يغيّرون تاريخ المنطقة بأكملها.
لم يكن الأمين الراحل مدّعياً، رغم تعدد ميادين إبداعه الفكرية، بل ظل بمنأى عن ضجيج حبِّ الظهور وافتعال المعارك الوهمية لتأكيد حضوره.. كان الصمت رفيقاً أليفاً له حيثما أمكن ذلك، في السنوات الأخيرة.
أين نحن الآن أيها الأمين الأمين؟
هل لازلنا نعيش زماننا ونلتقي صُدَفَهُ وأحداثه أم نحن من نسْل الماضي وورثته، نحس بغربة في زماننا فنلوذ بنقاط نتذكرها ونشحنها بمباهج وأمنيات؟
قد تكون حالاً مشتركةً بين القوميين الآن، باستحثاث الذكرى أو صناعتها لتكون عوضاً أو لتكون مستراحاً. وربما لنعوّض بها إخفاقنا في مصالحة الحياة وتقبّل وجودنا الهامشي في صخبها.
هل كان يطوي بصمته الأخير وهو يتابع توالي فقدان رموز جيله من الرفقاء، ومنهم أنطوان غريب ومحمد خليفة وهنري حاماتي وجبران عريجي وشوقي رياشي، وغيرهم الكثير الكثير؟ هل تُطوى برحيله تساؤلات عرف بحساسيته أن الردّ عليها يبقى مؤجلاً الى حين؟..
الواقع أنّ تجربة محمود غزالي الصحافية، على شهرتها داخل لبنان، إلا أنها لم تحظ، عربيّاً، بالعناية التي تستحقّ. بل كانت عيون الاستخبارات تلاحقه من مكان الى مكان كما حدث معه يوماً في الأردن، وقد رواها لي، كيف دخل عناصر الاستخبارات غرفة نومه وأخذوه بثياب النوم إلى الطائرة مباشرة ليعيدوه إلى لبنان، في وقت كان لبنان يترصَّد حركة القوميين في كل مكان بعد خروجهم من السجون.
حدّثني الأمين الراحل هنري حاماتي، عن فترة الحرب الأهلية اللبنانية عندما اعتقلت الجبهة اللبنانية، محمود غزالي، وعذّب وهو معلقاً من يديه النحيلتين بسقف غرفة من سجون الجبهة اللبنانية، وقتها اتصل حاماتي بنائب الأشرفية، ميشيل ساسين من زلم رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق الراحل، كميل شمعون ، وقال له بالحرف الواحد، خبِّر معلمك شمعون، إذا لم يخرج غزالي من الحبس، سيتلقى صفعة من أقرب حراسه، ورغم إلحاح النائب ساسين لتهدئة الأمور إلا أن حاماتي أصرّ، وهكذا كان..
حدثني يوماً، كيف جاءه، الرفيق روبير بركة، طالباً يد ابنته هالة، فقال له الراحل غزالي، هل اتفقتما على ذلك؟ فردّ بركة: نعم، فقال له إذاً لماذا جئت إليّ طالما اتفقتما، اذهبا حيث الحياة تليق بكما. وبارك لهما زواجهما.
أستعيد هذه المساحة المضيئة، لأّذكّر بمأثرة أبو وسام التي ظلت طي الكتمان، ولم يحاول يوماً إماطة اللثام عنها، إدعاءً أو محاولة للنيل من أحدٍ، وظل مترفعاً عن الصغائر حتى لحظة رحيله.
وهكذا، كما عاش يتعثر بابتسامته، رحل غزالي متلفّعاً بعباءة حسِّه المرهف ببقاء الوطن الذي يبقى حلماً يتشوّف لمعانقته واقعاً يبدّد يأسه ووجع مَن كانوا مثله الأعلى في البحث عن نهاية غير ما صار إليه الوطن الآن..
خانتني العبرة يا أبو وسام، لك إضاءة من توهّج أيام تبقى تتسلل إلى أعماق جيلٍ زاخر بالعنفوان والبطولة والأمل وطاقة العطاء والصبر على النوائب.. فأنت لا تشبه سوى نفسك، نائياً بها عن كل ما تراه من تشوّه جارحٍ في سلوك بعض المحازبين.
أراك الآن، يا أبو وسام، حلمَ يقظة كالحياة نفسها، تجلس أمامنا في مكاتب «البناء» كان بيتك الحميم ، تكشف لنا آخر الاحداث وتحدد مهامنا لعدد المجلة، أراك وأنا مدرك أن الفقدان والكتمان عن بعض الأسرار، متلازمان لا يفترقان في حياة الذين وهبوا حياتهم للحزب والوطن.
أيها الأمين الأمين.. فرغم كل الأهوال والمحن والرثاثة وسقوط الأشكال، فإن العشرات، بل المئات من الرفيقات والرفقاء في هذا الحزب العظيم سيُكملون سيرتك، ويفتحون آفاق المستقبل بالعلم والمعرفة، وهم يطوون أسرار مكابداتهم وتضحياتهم، بوصفهم خارج سرب المتواطئين ضد الحقيقة..!
خلجة
يقول الشاعر العراقي فوزي كريم:
«ما إن مددت يدي كي أُعانق
حتى رأيت يدي ارتفعت للوداع».