لماذا القصف الأميركي على إدلب؟
د. وفيق إبراهيم
يبدو القصف الأميركي الأخير على منطقة إدلب السورية عملاً مطلوباً، لكن المتعمّق في توقيت تنفيذه يلاحظ على الفور اختراقه عن عمدٍ مسألتين:
أولاً وقف إطلاق النار الذي اعلنته روسيا وتركيا بموافقة سورية، قبل القصف بأيام عدة في إدلب والثانية تزامنه المريب مع تعهد السلطات التركية بفكفكة منظمة النصرة «القاعدية» التي تحتل منطقة إدلب وسحب عناصرها ومعظمهم من الاجانب الى الخارج.
فهل يشكل هذا القصف الأميركي دعماً للاتفاق التركي الروسي أم تعطيلاً له؟
منذ انتشار الإرهاب في إدلب قبل خمس سنوات برعاية الجيش التركي الذي دخلها بدوره منتشراً من الحدود الى إدلب عبر عفرين، لم يطلق الأميركيون رصاصة واحدة ونحوها، معتمدين على وقوف التحالف التركي الإرهابي في وجه قوات الجيش العربي السوري.
إلا أنّ هزيمة الإرهاب من حلب وحتى الجنوب عند حدود الأردن وقسم من العراق أسهم بجذب روسي لتركيا عبر تأسيس آليات آستانا وسوتشي بينهما مع إيران في مهمة تنظيم تدريجي للحل السياسي في سورية.
فبدت هذه الآليات محاولة لهيمنة هذا الثلاثي الروسي التركي الإيراني على الادوار الأميركية السعودية الاردنية الاوروبية والخليجية عموماً.
لكن المراوغات التركية في تطبيق مقررات آستانا وسوتشي ومحاولاتها اللعب والاستفادة من الصراع الأميركي الروسي، عزز من امكانات الإرهاب في إدلب وعفرين وأرياف حماه وحلب، فأصبحت تركيا تمتلك نفوذاً كبيراً ثلاثياً: الاول من الاحتلال المباشر لجيشها والثاني من التنظيمات الإرهابية المنتمية الى القاعدة والاخوان وأخرى من تركمان سورية وايغور الصين والشيشان ودول عربية وإسلامية مختلفة والثالث استفادتها من الصراع الروسي الأميركي.
دفعت هذه الانتهازية التركية بالجيش العربي السوري الى مهاجمة إدلب متمكناً من تحرير منطقة واسعة منها، حاشراً الأتراك في زاوية روسية ضيقة شكلت حبل النجاة بالنسبة اليهم، فسارعوا لعقد لقاءات ثنائية ختموها بزيارة للرئيس التركي اردوغان الى روسيا انتهت الى اتفاق بوقف إطلاق النار وسحب الإرهاب القاعدي من إدلب.
وما إن بدأ وقف النار بالتنفيذ حتى قصف الأميركيون بشكل عنيف مركزاً لمنظمة «حراس الدين» القاعدية فسقط فيه مئات القتلى والجرحى.
لمزيد من الدقة، فإن الأميركيين حاولوا قبل هذا القصف مباشرة إعادة جذب تركيا اليهم، فعرضوا عليها منطقة آمنة عند الحدود الشمالية لسورية بعمق يراوح بين خمسة و14 كيلومتراً وبعرض لا يزيد عن 80 كيلومتراً بإشراف أميركي تركي، إلا ان الأميركين الحريصين على علاقتهم بالأكراد وعدم التسبب بفقدانهم كآلية سياسية أخيرة لهم في سورية بدوا وكأنهم يريدون هذه المنطقة الآمنة منطقة وهمية لا يتمتع فيها الترك بصلاحيات فعلية بل لمجرد جذبهم سياسياً والحد من حركة روسيا تجاههم.
هذه المحاولات لم تنجح. فالجيش السوري اخترق إدلب عسكرياً حاشراً الدور السياسي، التركي في زاوية ضيقة لا نجاة منها الا بكوةٍ روسية صغيرة لم يوفرها اردوغان لأنها بدت حبل النجاة الوحيد.
لذلك تزامن القصف الأميركي على حراس الدين الإرهابيين مع تقدم كبير للجيش العربي السوري في إدلب ونجاح الروس بإعادة ضبط الأتراك على توقيت حركة الجيش العربي السوري والأخطر انه تزامن ايضاً مع وقف لإطلاق نار طلبته تركيا وقبل به الروس والسوريون لسحب الإرهاب بعد فكفكته.
فماذا يعني هذا الخرق؟
إنه محاولة لتدمير وقف إطلاق النار لإعادة الاوضاع الى حالة الاقتتال ومنع اي تقدم فعلي للعلاقات بين روسيا وتركيا. فالإرهاب يخشى على مصيره كأفراد وليس كتنظيمات سياسية، وقد يمتنع عن تنفيذ مطالب تركية او يضغط على بعض التيارات المتطرفة في حزب العدالة والتنمية، للاستمرار باحتلال إدلب، يتبقى احتمال أخير وقريب وهو نشوء حوار بين هذه التنظيمات الإرهابية في هيئة تحرير الشام والألوية الاخرى مع الأميركيين مباشرة لحمايتهم مقابل استمرارهم في إدلب والتمتع بالتغطية الأميركية الكاملة.
قد يعتقد البعض أن الأميركيين لا يجازفون بعلاقات علنية مع هذا النحو، والردّ موجود وهو ما الفارق بين منظمة طالبان القاعدية في أفغانستان وبين هيئة تحرير الشام القاعدية «النصرة» في سورية؟
هذا بالإضافة الى ان الأميركيين يستعينون دائماً بالمنظمات الإرهابية في افغانستان والعراق وسورية واليمن وليبيا ومصر والصومال وفي كل مكان تقريباً، والعودة الى التوثيق السياسي والإعلامي كاشف لمدى التورط الأميركي في دعم الإرهاب لتفجير الدول، خصوصاً في الشرق الاوسط وأميركا الجنوبية وافريقيا.
هناك إشكاليات اخرى تتبادر الى الذهن. وهي لماذا يُصرّ الأميركيون على إبقاء الإرهاب في إدلب تحديداً؟
الأميركيون متأكدون من أن استعادة الجيش العربي السوري لإدلب يؤدي تلقائياً الى تحرير عفرين، اما الانعكاسات السياسية لهذا المنحى، فهو احتمال تعزيز الحلف الروسي التركي الى مستوى عميق جداً، هذا الى جانب تفرغِ الجيش السوري الى معركة شرقي سورية الذي تحتلّه قوات أميركية مع منظمة قسد الكرديّة.
هنا يعرف الأميركيون أن هذه المرحلة تدفع الى تسهيل عودة السوريين في شرقي الفرات الى رحاب دولتهم الآنيّة اليهم لتحرير المنطقة، ما يسقط أدوار بعض المتعاملين المحليين مع الأميركيين فيهربون او يعودون الى إعلان ولائهم.
هذا ما يتحاشاه الأميركيون ويفرون منه بعرقلة تحرير إدلب من جهة، وبتحريض الامم المتحدة على منع تشكيل اللجنة الدستورية الخاصة، بحل الأزمة السورية من ناحية ثانية فتبدو إدلب مدار صراع روسي أميركي تركي وسوري تركي إرهابي وروسي تركي، بما يؤكد أنها المفصل الاساسي نحو نهايات الازمة السورية، يكفي أن التمويل الخليجي يذهب حالياً بتوجيهات أميركية نحو قسد الكردية وبعض زعماء العشائر في شرقي الفرات.
وبدأ يتحرك لتمويل التنظيمات الإرهابية في إدلب.
فإدلب اذاً الى اين؟
التقدم العسكري للجيش العربي السوري فيها بتغطية روسية كاملة أفهم الاتراك ان زمن المراوغات ولى الى غير رجعة وأن مستقبل الدور السياسي التركي لم يعد مع الأميركيين المتراجعين في كامل الشرق الاوسط.
وهذا يدفع الى تقارب روسي تركي كبير عبر آستانا يُسهم في استعادة الدولة السورية لمناطقها حتى الحدود.
أما فشل هذا الاحتمال فيدفع ايضاً سورية وتحالفاتها بتغطية روسية صارمة الى استكمال عمليات التحرير عسكرياً، لكن العلاقات المزدهرة بين تركيا وروسيا على مستوى توريد الغاز الروسي والسلاح والصفقات الاقتصادية تشجع على دور تركي ضمن العباءة الروسية. وهذا لن يكون بالطبع إلا لصالح سورية وتحريرها بالكامل من حدودها مع الأردن والعراق الى الحدود مع تركيا.