تصعيد العدوان الأميركي الاقتصادي لا يُرَدُّ عليه إلاَّ بالهجوم الدفاعي
د.رائد المصري
بهدوء… فسيبقى لبنان والعراق يُشكِّلان مفصلاً أساسياً ونقطة التقاطع الملْتهبة في الصِّراع الإقليمي والدولي ومحطَّة انطلاق وتزخيم جديدة يُريد الأميركي ومعه حلفاؤه الولوج نحو انقسام الشارع في هذين البلدين على خيارات خارجية تتغذَّى من تناقضات اجتماعية سبَّبتها أزمات وعدوى حمَّى الفساد والسَّرقات والسَّمسرات، في مسارات سياسية لقوى طائفية ومذهبية امْتهنت وأتْقنت التفنُّن في نخْر الدولة ومؤسَّساتها متزاوجة ومرتبطة كولونيالياً بعلاقات متينة بالأدوات المالية الأميركية التي بدأت تمتدُّ بالأصالة نحو الداخل وتعبث في مقدَّرات الدول وسياساتها الاقتصادية لإبقاء حال النَّزف والإفقار وتوسيع هامش التحرُّكات المطلبيّة والتي قد تكون محقَّة في الكثير من جوانبها، لكنَّها تتطلَّب بعض الهدوء، لا سيَّما أنَّ لبنان والعراق بقيا تحت وطأة ضغط الأحداث والتطوُّرات المتسارعة وأثبتا حتى اليوم قدرتهما على التفلُّت من المشروع الأميركي ومعه الإسرائيلي، وكذلك من الآلة التكفيرية وماكينة التقسيم والتجزيء…
إنَّها ضريبة الصُّمود التي تُدفع في وجه مؤامرات التقسيم والتبعيّة، وضريبة تُدفع في استخدام القرار السياسي والسيادي المستقل، وضريبة تُدفع ثمناً في تشكيل وتمْتين حلف المقاومة الذي توسَّع من غزة الى اليمن، لكن يبدو أنَّ هذه الضريبة ستكون أكبر وأكثر إيلاماً إذا طاولت رموز التركيبات السياسية التي ثبَّتها المستعمر وعمل على غرس وتعميق أنيابها وأظافرها في أجساد اللبنانيين والعراقيين ومكَّنها من السيطرة والاستحواذ على مقدَّراتهم في الدولتين وثرواتهما وتقديمهما قرباناً للمستعمرين الغربيين..
إنَّها حال كلُّ المتآمرين في الداخل الذين رهَنوا البلد ومقدَّراته وإمكانياته للخارج، وامتنعوا عن القيام بالإصلاحات اللازمة، ونفَّذوا أوامر البنك الدولي وصندوق النقد بتراكم الفوائد والقبول بشروطه، واستخدموا أنماط الإنتاج الرَّيعية في الاقتصاد والمال، وأفسحوا وسهَّلوا الضغط على العملة الوطنية مقابل الدولار لزيادة أرباح شركاتهم، إنها القوى الطائفية والإقطاع السياسي في لبنان والعراق والتي تصعب هزيمتها لكونها ممسكة بالمفاصل الأساسية المالية والاقتصادية عبر ربطها بحركة الإنتاج الرأسمالي الأميركي الضاغط اليوم بقوة الدولار وهيمنته على أيِّ قرارات سيادية تتعلَّق بالأمن المجتمعي والأمن الاقتصادي والتنمية والاستقرار.
لا نستطيع الاختباء خلف قرارات تدفيع الثمن للموقف من المشروع الأميركي أو الهيمنة السعودية أو التسلُّط الإسرائيلي للقول بأنَّ المطالب الشعبيّة تحرّكها جهات خارجية، وإذا كانت كذلك فعلاً فلماذا الإصرار والإمعان في إهمال المطالب المحقَّة..؟ ولماذا إبقاء هذه الثَّغرات الاجتماعية التي تُبقي التوتُّرات في الشارع من دون العمل على إيجاد الحلول لها..؟؟ لا يمكن بناء مجتمع سليم ومتماسك مواجه للمشروع الأميركي والصهيوني وهو متآكل من الداخل تنخُرُه سوسة الفساد والظلم والقهر، لأنَّ الأساس في الانتظام المجتمعي هو إقامة العدل والمساواة في الحقوق… فكيف سيستقيم العدل والقضاء في لبنان مثلاً ونرى وزيرين لم يخضعا للقضاء رغم الطلبات المتكرِّرة للمثول أمام القضاء للمساءلة حول قضايا الفساد وهدر المال العام..؟؟ إنها مأساة النظام الطائفي والمذهبي وهو بطبيعة الحال نظام الأبارتهايد العنصري الذي يُميِّز بين المواطن وأخيه الطائفي وبين السياسي المتمكِّن من سرقة المال العام والمحميّ من أي محاسبة وبين العامة من الشعب.. هنا تصبح الثورة الشعبية ضرورة حتمية لا بدَّ منها لاقتلاع أنياب المستعمرين للتخلُّص من النَّزف المستمر في جسد الدولة والمقاومة وفي بيئتها التي تكتوي في كلِّ يوم من شحِّ المال والدولار والعمل والتوظيف والبنى التحتية والطبابة والماء والكهرباء والطرقات، إنه فعلاً عصر الظلمات تعيشه شعوب المنطقة..
لا بدَّ وبغية تثمير الانتصارات التي حقَّقتها دول وشعوب المنطقة ومقاوماتها في مواجهة الهجمة الأميركية الصهيونية ومعها بعض الرجعيات العربية من الانتقال الى مرحلة الهجوم أو الاندفاع في الهجوم الردعي والدفاعي لتحصين الجبهات الداخلية وذلك من خلال تنظيف البيئة الداخلية من الفاسدين والمفسدين والحفاظ بقوة الشرع والقانون على المال العام ومنع الهدر والسرقات حتى لو تطلَّب الأمر تضحيات واهتزازات في النظام السياسي. فالتحصين الداخلي هو الأهم والأمم التي تكلَّفت ودفعت الثمن في حفظ كرامتها وسيادتها غالياً لن يخيفها ولا يجب أن تخيفها مجموعة أداوت تخريبية تأتمر بالخارج وترهن اقتصاد البلد وناسه ومستقبله لسماسرة المستعمرين وروتشيلدهم الجديد ترامب. فالشعب العراقي والشعب اللبناني ومعه السوري أثبتوا حضورهم وموقفهم ودفاعهم الحقيقي في معركة الأمة وأثبتوا أنهم خيار نهج استراتيجي لا ينزاح. فهذا شعب أصيل لم يحِدْ ولم يغيِّر بوصلته يوماً… فلماذا يكون قدره الدائم تلقي الضربات من المستعمر الغربي الخارجي ومن أدواته الطائفية والمذهبية في الداخل..؟ فعلينا الخيار من الآن وصاعداً..
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية