معلولا الجريحة
تركي حسن
الإسلام كما عرفناه فطرةً وقراءةً وتربيةً واعتقاداً، جاء رحمةً للعالمين وجميع أبنائه لا يختلفون على أركانه إيماناً وإسلاماً. وعبر التاريخ انقسم الإسلاميون في تقديمه فئتين:
ـ الفئة الأولى حملته وقدّمته إلى العالم دين سماحةٍ وعدلٍ ورحمة، وفُتحت بلدان من دون قتالٍ أو جيوش، ووصل الى أصقاع الأرض محرّراً شعوبها من قيودها رافعاً من شأنها في مختلف المعارف الدينية والفلسفية والعلمية مثل الطب والكيمياء والفلك والرياضيات.
-الفئة الثانية قدّمت صورة ًسوداء تقتل الأبرياء وتُهدم مقوّمات الحضارة الإنسانية وتحرق المكتبات أو تلقي بها في الأنهار، مثلما حدث لمكتبة بغداد على أيدي الغزاة. والمؤسف أن هذه الفئة انتقلت من السلوك الغرائزي لتتأصّل وتشرّع في الكتب وفتاوى بعض الإسلاميين الذين ينظر بعضنا إليهم كقامات ومرجعيات دينية مثل ابن تيمية وابن القيّم ومحمد بن عبد الوهاب، فشوّهوا الإسلام وقسّموه وبدلاً من قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر أصبح التشدّد والفرقة والتضييق والأخذ بتفسيرات مرجعياتهم عوضاً عن النص القرآني والحديث الشريف، حتى بدا المسلم في غربة عن دينه.
لو بقيت هذه الفتاوى في الكتب الصفراء لا خطورة في ذلك، فكم هي الكتب عبر التاريخ التي وضعت على الرفوف لتبقى ضمن أثر السلف. لكن في القرن الماضي ظهرت أحزاب وحركات إسلاموية اتّخذت الإسلام كمنهج ودليل عمل، وذهبت بعيداً في أسسها الفكرية لتفسيرات النص، حتى كفّرت مجتمعاتها وتحوّلت الى أداة لضربها في خدمة مشاريع خارجية، وغدت ظاهرة التطرف سمةً للمسلمين، كما أعادت إلينا الصور الغابرة للقتل والتدمير والتخريب وهدم الحضارة الإنسانية. فالوهابية الجديدة والسلفية الجهادية التكفيريتان و«الإخوان المسلمون» ومشتقاتهم يتصدّرون المشهد الدموي طوال نصف قرن تقريباً ومعظم ضحاياهم من المسلمين.
بالأمس زرت معلولا بعد تحريرها من الإرهاب وشاهدتها مثخنة بجروحها عبر التدمير والحرق لأديرتها وكنائسها وجوامعها وبيوتها الأثرية… وكم كانت دهشتي لهذا الحقد – الذي لم ألق له جواباً – حقد على خشب أرز دير مار تقلا الذي يعود إلى القرن الأول الميلادي، ومذبحها الذي يعود للقرن الثالث، والأيقونات التي سرقت من كنيسة مار سركيس وباخوس أو التي خرّبت ودمّرت… والبيوت الأثرية التي تعود الى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. معلولا تراث السيد المسيح والمسيحية والمحافظة على لغته وتراثنا الإنساني.
قبل معلولا كانت صدد وشمل الدمار فيها ست عشرة كنيسة أثرية سرياني، وقبلها أيضاً كنائس وجوامع وأضرحة ومقامات على مساحة القطر.وإذا كان السؤال كيف لأولئك أن يدمروا ويخربوا ويسرقوا؟ فالجواب على ما أرى أنّ الفكر الوهابي التكفيري الذي يحملونه هو نفسه من فجّر تماثيل بودا في أفغانستان والجوامع والحسينيات والمقامات في العراق وسورية. وليس ذلك غريباً عنهم إذ سبقهم أسلافهم بسرقة قبر النبي عليه الصلاة والسلام والعتبات المقدسة في العراق.
-هل يُعْقل أن نجد مسلماً يكسّر الصلبان ويُهدّم المذابح ويخرب الأيقونات والأضرحة والمقامات ويحطّم تمثال السيدة العذراء التي اختصّها القرآن الكريم بسورة كريمة من 98 آية وقد ذُكرتْ فيه 33 مرة.
رغم قتامة الصورة هذه، أرى أن المسلمين بغالبيتهم الساحقة يقفون ضدّ فكر أولئك وتصرفاتهم. وأرى صورة ذلك المقاوم الذي يحيّي تمثال السيدة العذراء ويقف بإكبار وإجلال لها بعد تحريره من الإرهاب وهي المقدسة لدى المسلمين مثل أخوتهم المسيحيين.
ـ إزاء ما جرى، أعتبر أن المسؤولية الأخلاقية والدينيّة والوطنية والإنسانية تقتضي أن تتصدى الدولة عبر وزارتي الثقافة والإعلام والكنيسة بمختلف مسمّياتها، والمنظمات العالمية كاليونسكو وغيرها، لتوثيق ما حصل كي نستعيد ما سُرق من تراثنا الديني والإنساني، وإدانة أولئك ومن وقف خلفهم عربياً وإقليمياً ودولياً. وأدعو رجالات الفكر والإعلام والثقافة والدّين إلى شحذ أقلامهم وألسنتهم للتفريق بين مفهومين، أحدهما مدمّر يقتل ويسرق ويحرق ويغتصب ويأكل الأكباد، والآخر سَمِح يقدّم إلى الإنسانية فكراً جامعاً موحّداً يأخذ بالقول: «الناس نوعان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.
باحث في الشؤون الاستراتيجية