الأداء الاحترافي للجيش السوري: «الجيش الذي لا يقهر»
ناصر قنديل
– لم يعد موضع نقاش أنّ الجيش السوري يخوض معاركه باحتراف، ووفقاً لحسابات وخطط ومقادير وأولويات، وكيف أنّ حجم الجهد المستثمر في كلّ معركة بعيداً عن الانفعال، يجب أن يكون أقلّ من حجم العائد الاستراتيجي المرتجي منها، وبعد دخول حزب الله في الحرب، صار المزج في التخطيط وخبرات التكتيك والاستراتيجية بين خلاصات خبرات الجيوش النظامية وقوى المقاومة وحرب العصابات، وقد اكتسب الطرفان من تجارب كثيرة ومتنوّعة للقتال معاً منذ حرب القصيْر إلى يبرود وصولاً إلى الغوطتين وحمص، ما جعل مراكز الدراسات العسكرية الأميركية و«الإسرائيلية» تتحدّث بقلق عن قدرات وخبرات الجيش السوري والمقاومة، منفردين بعد هذه التجارب المتنوّعة والمتعدّدة، وبقلق أكبر عن قدراتهما وخبراتهما مجتمعين في خبرة القتال معاً.
– قد يصحّ القول عن نسبة من الارتباك في الأشهر الأولى للحرب حول كيفية التعامل مع المعطيات التي أظهرتها الحرب وأساليبها ومناطقها الجغرافية، والتي لا تتناسب مع كلّ خريطة انتشار الجيش السابقة للأزمة ونوعية توزيع مواقع الأسلحة وارتباط ذلك بحسابات الحروب الخارجية، خصوصاً مع «إسرائيل»، مقابل ما كشفته الحرب من معادلات ميدانية رتبت خسائر وفرضت إعادة تموضع مختلفة جذرياً، وسبب الارتباك هو صعوبة التوفيق بين الحاجتين، حاجات الحرب الجديدة، وحاجات البقاء بجاهزية لكلّ حرب خارجية تزيد نسب توقعها في ظلّ حروب الاستنزاف الداخلية، لذلك يشهد لقيادة الجيش السوري نجاحها بأقلّ قدر من الخسائر في إعادة رسم خريطة انتشار ومهام لجيش يقارب نصف مليون جندي، موزعين على أسلحة مشاة ومدفعية وصواريخ وهندسة واستطلاع ومدرّعات ومغاوير وإنزال جوي، وقوى بحر وجو ومطارات وصواريخ أرض أرض ثقيلة وبعيدة المدى وشبكات دفاع جوي، ومعادلات للتمويه والإخفاء، كلها كانت تحتاج إلى التغيّر وفقاً للشروط الجديدة، حيث يكفي مثال وحدة صواريخ دفاع جوي منصوبة في تلة قرب إحدى القرى، تحوّلت فجأة إلى موقع يضمّ عشرين جندياً وضابطاً محاصرين عليهم القتال كوحدة مشاة لم يعتادوها من قبل، وعلى قيادتهم حماية الصواريخ من الإتلاف والتخريب، وهكذا تمّت خلال أقلّ من سنة عملية هائلة الحجم لا يعرف أعباءها وأثقالها وتداعياتها ومترتباتها على هيكلية الجيوش إلا الذين عاشوا تجارب عسكرية حقيقية، لتكون بذاتها شهادة للجيش السوري بامتلاك أعلى درجات الاحتراف، خصوصاً أنّ عملية التموضع والانتشار والتأقلم وفقاً لشروط الحرب الجديدة كانت تتمّ في قلب النار.
– عرفت الحرب، نقلات عسكرية كبرى، أهمّها كانت الحملة التي جرّدها الجيش السوري لربط حماة بحلب عبر صحراء السلمية، حيث شقّ طريقاً بطول يقارب المئتي كيلومتر فك الحصار عن حلب، وربطها من جديد بدمشق والساحل ومستودعات الجيش المركزية في حماة وصولاً إلى مطار حلب، كما عرفت الحرب عمليات كبرى من نوع حرب القلمون وتحرير يبرود، ومشاركة المدرعات والصواريخ والطيران الحربي والمدفعية ووحدات طيران عمودي وإنزال مظليّين، بالتشارك مع وحدات النخبة من حزب الله تولّت مهاماً خاصة في العملية التي حسمت خلال ساعات موقعاً يفترض أنه قلعة محصّنة يتمركز فيها آلاف المسلحين المحترفين من نخبة «القاعدة»، وكثيرة هي المعارك التي ستسجلّ واحدة واحدة مع نهاية الحرب، كمواد للدراسة والتمحيص من كليات أركان الحرب.
– منذ مطلع العام وعلى إيقاع قراءة التوازنات المشترك مع المقاومة، كتقدير موقف استراتيجي تستند إليه القيادات العسكرية في رسم خططها، بدا أن الجيش السوري على موعد مع نقلات استراتيجية كبرى، الأولى كانت في غوطة دمشق نحو دوما، المعقل الأهمّ للمجموعات المسلحة، حيث قام بحصيلة العملية أكثر من ألفي مسلح بترك المدينة وتسليم أنفسهم ومعهم خمسة آلاف مواطن، ولا تزال العملية مستمرة، لكن اندفاعتها توقفت عند حدود بذل الجهد الكافي لتحقيق صيرورة لا تزال تتدحرج، والثانية نحو جنوب سورية على إيقاع التوازن الجديد الناشئ عن الاشتباك بين المقاومة و«إسرائيل» على جبهة الجولان، وشمول مظلة الردع التي حسمتها المقاومة لجبهة جنوب سورية، فكانت الاندفاعة وصولاً إلى دير العدس حيث يقطع بالنار التواصل بين محافظتي القنيطرة ودرعا، وبالتالي تفصل المجموعات المرتبطة بالحدود الأردنية في درعا، بتلك المرتبطة بالحدود مع الجولان والمدعومة من «إسرائيل» في القنيطرة، ولا تزال العملية مستمرة، لكن من الواضح أنّ اندفاعتها توقفت عند حدود عدم بذل جهد واستثمار إمكانات وتقديم تضحيات تفوق حجم العائد المتوقع من العملية، وترك التداعيات تتدحرج، لتأتي العملية الثالثة في شمال سورية، لفصل مدينة حلب بالكامل عن ريفها، وفك تواصل الأحياء التي يسيطر عليها المسلحون عن خطوط الإمداد التركي، واستثمار اللحظة الاستراتيجية لمساعي المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لفرض وقائع تجعل مهمته ممكنة التطبيق، وتقطع الأمل على متطرفي الجماعات المسلحة في المدينة بأوهام الوعود عبر الحدود ليصير حلّ دي ميستورا أفضل الممكن.
– حققت العمليات الثلاث أهدافها الاستراتيجية، فانهارت قدرات التصعيد في غوطتي دمشق، فيما التآكل والهريان في جسم المجموعات المسلحة يتقادم، لكن العائد الإضافي كان تحرير قوة من الجيش للقيام بمهام جديدة، وانشقاق «جيش الأمة» عن «جيش الإسلام» ووقوع حرب إبادة بينهما، استنجد خلالها «جيش الأمة» بالجيش السوري لحماية عناصره وعائلاتهم واستعداده للقتال مع الجيش في وجه جماعات «جيش الإسلام» بقيادة زهران علوش، وفي العملية الثانية كان العائد الإضافي إعادة ربط وحدات الجيش السوري المتفرّقة على جغرافيا محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، خصوصاً أنّ من بينها وحدات متخصصة، وتمكينها من العودة للتصرّف وفقاً لمهامها واختصاصاتها تبعاً لما تتبعه الجيوش، أما العملية الثالثة فأهمّ ما فيها وما تخطى هدفها العسكري بقطع التواصل بين حلب وتركيا، وبين المدينة وريفها، وتقريب لحظة الحلّ لإنهاء الوضع الشاذ في بعض أحياء المدينة، هو التواصل للمرة الأولى مع الخزان البشري لقوات الدفاع الوطني في نبل والزهراء المحاصرتين منذ ثلاث سنوات، وحيث أكثر من عشرة آلاف مقاتل سيدخلون إلى حلب ويشكلون قوة إسناد لمسار القتال والحسم فيها حيث تدعو الحاجة وتصير بلداتهم في عهدة وحدات الجيش وحمايتها.
– الجيش السوري جيش لا يُقهر، بقائده وضباطه وجنوده، بروحه المعنوية وتضحياته، بثباته وإصراره، لكنه جيش أسطوري باحترافيته العالية، وما يجري في القامشلي والحسكة ودير الزور سيقول أشياء كثيرة قريباً.