إيران القوية في الميدان والسياسة: مقدمة منطقية لحتمية «الاتفاق النووي» وضرورة الخوف منه أميركياً
خضر سعادة خرّوبي
تتناسل فصول المفاوضات النووية الإيرانية الدولية الأميركية حول الملف النووي لطهران، التي تسارعت وتيرتها مع احتلال الشيخ «الوسطي» والمعتدل حسن روحاني صدارة المشهد السياسي في إيران، بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2013، بناء على وعده بالتصدي للمعضلة النووية التي شهدت تحقيق اختراق تاريخي، فيما رأت بعض الجهات أنه أشبه بـ«الخطأ التاريخي»، شأن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو.
في حقيقة الأمر، يمارس كثيرون «لعباً في السياسة» لدى تناولهم هذا الملف، بعيداً من شقه التقني. وعلى الجانبين الإيراني والأميركي هناك «جبهات رفض» تعرقل مسار الاتفاق بين طهران ومجموعة الدول الستّ. فالتيار «المحافظ» أو «المتشدّد» داخل النظام الإيراني وجد في «نزهة جنيف» الشهيرة بين وزيري الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والأميركي جون كيري ذخيرة إعلامية مناسبة لإطلاق المواقف ضدّ ظريف واستجوابه أمام مجلس الشورى البرلمان . في الكواليس، كلام كثير عن العلاقة بين «الرئيس» و«المرشد الأعلى»، ويسود اعتقاد بأن ليس في استطاعة روحاني تجاوز الخطوط السياسية المرسومة من قبل النظام الإيراني. وبعد الإشارة إلى مديح السيد علي خامنئي، علناً، لمرونة فريق بلاده التفاوضي، نقلت صحيفة «لوفيغارو» عن صادق خرازي، سفير إيران السابق في باريس، قوله إنّ «المرشد» يرفض اتفاقاً على مرحلتين سياسياً بداية، وتقنياً لاحقاً لأنّ اتفاقاً كهذا، في نظر خامنئي، لا يحول على نحو قاطع دون تملص الأميركيين من الوفاء بالتزاماتهم في شأن رفع العقوبات على نحو الخصوص. و«العقبة الأساس» هي في هذه المسألة على نحو ما تقول الصحيفة الفرنسية. على الجانب الأميركي، «يرقد» الجمهوريون الذين باتوا يحوزون الغالبية في الكونغرس بعد الانتخابات النصفية التي أجريت في تشرين الثاني الماضي على موقف لا يبدو أنهم سيتزحزحون عنه عمّا قريب، لناحية رفض ما يعتبرونه «اتفاقاً سيئاً» قيد التبلور في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني.
الفارق، وفق بعض التحليلات، أنّ «جناح المحافظين» الإيرانيين ينطلق من حسابات «المصلحة القومية» للجمهورية الإسلامية المبنية على أسس إيديولوجية تنطوي على اعتبارات سياسية تعتبر أنّ الولايات المتحدة تمارس عداء لشعوب المنطقة عن طريق سياساتها الداعمة للإرهاب بوجهيه التكفيري و«الإسرائيلي»، بينما ينطلق «المعسكر الجمهوري» في واشنطن من حسابات سياسية ضيقة تعلي من شأن اعتبارات المصلحة «الإسرائيلية»، ولا أدلّ على ذلك سوى إلقاء نتنياهو قبل ما يقارب الأسبوع كلمة في الكونغرس هي أقرب ما تكون إلى جملة أكاذيب مملة ومضللة اعتاد «بيبي» تكرارها منذ سنوات بلا كلل، وذلك وسط مقاطعة لافتة من قبل «ديمقراطيي» المؤسسة التشريعية.
ويُنظر إلى «الرسالة التحذيرية» التي بعث بها أعضاء من «الغالبية الجمهورية» فيها إلى النظام الإيراني، في سابقة تاريخية غير معهودة في الحياة السياسية والدستورية الأميركية، على أنها مرآة تعكس تطوع هؤلاء لأداء دور صندوق بريد في اتجاه إيران بالنيابة عن «حلف المتضرّرين» في تلّ أبيب وعواصم عربية.
بثقة لافتة، يوضح المسؤولون الإيرانيون أنّ بلادهم منتصرة، سواء تمّ التوصل إلى اتفاق بينها وبين «المجموعة الدولية» أم لا. وهي إذ تجيد، وفق مراقبين، اللعب على سياسة «حافة الطاولة» خلال المفاوضات، مع تلازم وثيق الصلة بسياسة «حافة الهاوية» التي تمارسها في الميدان، بالتزامن مع تسخين آلتها العسكرية في الخليج، وتثبيت رهاناتها في الملفات الإقليمية، سواء عبر الحكومات كما هي الحال في العراق، أو عبر الفاعلين من غير الدول non-state actors ، كما هي الحال في اليمن.
وفي الشأن اليمني تحديداً، ينتقد دبلوماسيون أميركيون سابقون، منهم هنري كيسنجر، سلوك إدارة أوباما ويتهمونها بالعجز أمام ما يعتبرونه «مساعي إيران العدوانية من أجل بسط هيمنتها على الشرق الأوسط»، غامزين من قناة أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما يبدي استعداداً للقبول بدور طهران الإقليمي.
سبق للرئيس الأميركي المتأثر بأفكار مديري مجموعة دراسات حول العراق، لي هاملتون وجايمس بيكر، الداعية إلى الانفتاح على سورية وإيران، أن عبّر عن رغبته في إرساء توازن جغرافي ـ سياسي أكثر استقراراً ممّا وصفه بـ «الحرب الأهلية والإرهاب والمعارك الطائفية». من وجهة نظر أوباما وفريقه لا يجوز التفريط باتفاق وشيك ومحتمل مع الإيرانيين، لا سيما أنهما يعلمان، تمام العلم، حدود وحجم قدرات الدور الإيراني على ممارسة ما يمكن أن ينظر إليه على أنه «تسهيل» أو «تعطيل» في غير مكان وأكثر من ملف إقليمي حساس، إلى درجة حفزت حكومات عربية على الاستيقاظ من سباتها على قضية تشكيل قوة عربية مشتركة، نأمل ألا يكون الأوان قد فات عليها أو أن تكون مجرد إجراء «خارج عن السياق» وحركة التاريخ.
من هذا المنطلق، يُحبذ للإدارة الأميركية أن تُمنح طهران هذا الدور، بـ «السياسة» وفي إطار تفاوضي، لما يمكن أن يترتب عنه من التزامات من جانبها تجاه «المجتمع الدولي»، الذي تحتكر الولايات المتحدة صوته ومصالحه بشكل أساسي.
تنظر شخصيات معروفة بقربها لـ «إسرائيل» كمارتن أنديك، بعين القلق إلى اضطرابات المنطقة كمدخل قد يحمل إدارة أوباما على الاختيار بين التقارب مع الإيرانيين وبين الاصطفاف وراء حلفاء عرب و«إسرائيل». البديل أسوأ ولا يتيح ارتياحاً أكبر بالنسبة إلى واشنطن، وهو أن تبادر إيران من تلقاء نفسها، وفي حِلّ من أي تفاهمات، إلى ممارسة هذا الدور في الميدان. وهي اليوم، وفق ما تشير إليه المعطيات «على الأرض»، أقدر على ذلك من أي وقت مضى، نظراً إلى حسن استثمارها لأخطاء الغرب وخطايا الأنظمة الإقليمية، وهو ما تتخوف منه الإدارة الأميركية، ويحاول العرب التصدي له بخطايا أكبر وبخيارات أكثر خطورة، تقلّ احتمالات التحكم بها مع الوقت، لتتصاعد المخاوف من أن تنقلب تفاعلاتها في لحظة ما وينتج الخطر القائم مخاطر بالجملة، وعلى الجميع.