مشروع المرأب… لإعادة إحياء التلّ أبناء طرابلس يرسمون قرارهم التنموي
عبدالله خالد
المجتمع الطرابلسي مشغول هذه الأيام بمشروع تنفيذ المرأب في التلّ، وسط انقسام حادّ طال الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأدى إلى المزيد من شرذمة هيئات ومؤسسات المجتمع المدني المنقسمة على ذاتها، بعد أن تقاسمتها القيادات السياسية وأفقدتها استقلاليتها التي تشكل الضمانة الوحيدة لالتفافها حول مصلحة طرابلس الحقيقية بعيداً عن غرقها في وحول التبعية لهذا الطرف أو ذاك ومستنقع المصالح الذاتية الضيقة، بدلاً من أن تتكاتف وتتضامن حول ورقة موحّدة تضم مشاريع الفيحاء الأساسية التي سبق أن قدمت إلى مؤتمر طرابلس الإنمائي الأول بعد أن توافقت عليها الهيئات الطرابلسية والشمالية وقد تراكم الغبار عليها بعد أن ركنت في أدراج المهيمنين على القرار السياسي، نتيجة تمسكهم بسياسة حرمان الأطراف من التنمية التي حصرت في العاصمة بيروت وبعض جوارها.
ثبت، بما لا يدع أي مجال للشك، أنّ المطلوب هو استمرار الانقسام بين أبناء طرابلس للتنصل من مسؤولية استمرار الحرمان فيها بعد أن تحولت إلى مدينة منكوبة، باعتراف المؤسسات الدولية، بعد أن تجاوزت نسبة الفقر فيها 57 في المئة، وبالتالي فإنها في حاجة إلى مشاريع تنموية حقيقية تقدم قيمة مضاقة للاقتصاد الطرابلسي والشمالي، وتستند إلى مشاريع اقتصادية منتجة وليس مشاريع ريعية تزيد أصحاب الثروات غنى على حساب الكادحين الذين يزدادون فقراً نتيجة تفسي البطالة فيها.
إنّ المشاريع التي تحظى بالأولوية اليوم وتتقدم على المشاريع الأخرى، وما أكثرها، يفترض أن تتركز على إعادة إحياء المشاريع المجمدة حالياً وفي مقدمتها تطبيق قانون حصرية معرض الرئيس رشيد كرامي، وتفعيل المرفأ في إطار خطة تشمل كلّ المرافئ اللبنانية، وتشغيل المطار، وإعادة بناء سكة الحديد، وتفعيل المنطقة الاقتصادية الخاصة، وإيجاد حلّ لمعضلة المصفاة، وإتمام المبنى الجامعي الموحّد، وإطلاق محطتي التسفير، والاهتمام بالأسواق الداخلية. كلّ هذه المشاريع تتقدم على مشروع تنفيذ المرأب بالشكل المبتور الذي قدم فيه، وخصوصاً بعد المواقف المتسرِّعة والمتناقضة التي اتخذها المجلس البلدي والتي عكست حجم الضغوط التي تعرض لها أعضاؤه، رغم تعدّد انتماءاتهم وولاءاتهم. فقد اتخذ أعضاء المجلس البلدي قراراً بالإجماع، وهم الذين لم يتفقوا سابقاً، رفضوا فيه مشروع المرأب الذي تقدم به مجلس الإنماء والإعمار، ثم وافقوا بعد أسبوع على المشروع، بالإجماع. وفي هذا السياق، برزت مواقف متناقضة من أطراف طرابلسية متعدّدة تفاوتت بين الرفض والتأييد، تخللتها اعتصامات متعدّدة ترواحت المواقف فيها بين التنديد والدعم، عكست مدى الشرخ الذي أحدثه المشروع بين أبناء المجتمع الواحد كنتيجة للتفاوت في وجهات النظر حول من يملك قرار طرابلس ويحدّد أولوياتها ويرسم استراتيجيتها التنموية، وما إذا كانت هذه الاستراتيجية توضع في طرابلس أم خارجها. ويبدو أنّ حجم التناقض الذي ظهر، فاجأ المهتمين بتمرير المشروع بدليل تبدّل اللهجة كمقدمة لإحداث نقلة تؤدي إلى توسّع المشروع وتضمنه أفكاراً لا تقتصر على المرأب، بل تتعداه لتصل إلى بناء قصر ثقافي يتضمّن عناصر متعدّدة من ضمنها المرأب بالطبع.
في الواقع، إنّ مشروع المرأب هو مشروع قديم، بدأ التفكير فيه بعد هدم السراي القديمة، وقد ظهر أول مخطط له في عهد الرئيس السابق لبلدية طرابلس عشير الداية، ثم واجهته عقبات حالت دون تنفيذه ليتبناه رئيس البلدية سامي منقارة بعد أن أمّن له التمويل من الاتحاد الأوروبي، ثم انتكس المشروع بعد أن واجه بعض العقبات التقنية، وتكرّر الأمر مع الرؤساء سمير شعراني ورشيد جمالي ونادر غزال.
إنّ ما أعاق تنفيذ هذا المشروع هو أنه لم يمهد له بدراسة شاملة تتناول الجدوى الاقتصادية والمعوقات التقنية التي يمكن أن تعترضه، بالإضافة إلى أنّ المشروع كان يقتصر على المرأب، وجلب التفكير في توسيعه معوقات جديدة، فقد تمّ اكتشاف المياه على عمق 17 متراً، الأمر الذي يفرض تكاليف إضافية. كما أنّ توسيع المشروع ليشمل «المنشية» و«قصر نوفل» ومبنى «الأوبرا»، من شأنه أن يخلق عقبات جديدة تفرضها شروط تقديم الأرض كهبة يسقط مفعولها إذا تمّ تبديلها، وهذا يعني أنه لا بدّ من إعادة النظر في المشروع والقيام بدراسات جديدة تأخذ في الاعتبار كلّ العقبات والاعتراضات التي برزت خلال حراك المجتمع المدني، وفي مقدمتها توسيع المشروع ليستوعب إعادة بناء السراي القديمة وتحويلها إلى قصر ثقافي للمؤتمرات وإعادة ترميم وتجميل الساحة، في إطار مخطط توجيهي يشمل إعادة تأهيل منطقة التلّ لتستعيد دورها السابق ووظيفتها كمنطقة تشكل منطلقاً للحداثة ومجاراة تطوّر العصر. إنّ مشروع الإرث الثقافي، وبالشكل الذي انتهى إليه بعد سقف النهر والكوارث التي نجمت عنه، يؤكد أنّ القرار الذي يرسم خارج طرابلس يلبي مصالح من اتخذوه، ولو على حساب مصلحة طرابلس العليا، وبالتالي لا بدّ من إشراك طرابلس فعاليات وهيئات مجتمع مدني في كلّ القرارات المتعلقة بتنمية طرابلس والشمال، وخصوصاً بعد أن أثبت مجلس الإنماء والإعمار فشله في تلمس نبض الشارع الطرابلسي وفهم حقيقة تطلعاته في استعادة موقعه ودوره في خريطة التنمية اللبنانية.
لم يعد مهمّاً اليوم أن ترتفع وتيرة الشكوى والتذمّر والتنصل من المسؤولية وإلقائها على الآخرين، ويجب أن يقترن الاعتراض بتلمس المدخل لإزالة أسباب ذلك التذمر وتلك الشكوى وتصويب مسار البوصلة باتجاه العمل على رسم استراتيجية متكاملة لتنمية طرابلس، ومعها الشمال، في إطار خطة وطنية تستند إلى الإنماء المتوازن الذي أقرّه دستور البلاد، ورفض الانتقال من مرحلة الغبن والحرمان إلى مرحلة التسويف والمماطلة والإصرار على الحصول على الحقوق كاملة وغير منقوصة. فلم يعد مقبولاً أن ترصد الأموال لمشاريع طرابلس، ثم تختقي تلك الأموال ليظهر أنها تقلصت من دون أي ضمان جدي بعدم تقلصها من جديد أو إلغائها. وقصة الـ100 مليون دولار خير دليل على ذلك. ولم يعد مجدياً أن تخصّص لطرابلس مشاريع هامشية لا تقدم قيمة مضافة إلى اقتصادها، ولا بدّ من الإصرار على تقديم مشاريع اقتصادية منتجة تشكل البديل الموضوعي للاقتصاد الريعي المعتمد في لبنان، وخصوصاً أنّ طرابلس تملك من القدرات والإمكانات ما يؤهلها لتحقيق ذلك، إذا فرضت صدور القرار السياسي الذي يسمح بإقرارها وتنفيذها.
بهذه الخلفية يمكن التعامل مع مشروع المرأب الذي أقره المجلس البلدي بعد الضغوط التي مورست عليه، مع أنه كان قد رفضه في السابق مصرّاً على توسيعه واعتباره جزءاً من مشروع كبير، في إطار خطة شاملة لإعادة تأهيل منطقة التلّ، لتقوم بدور مركزي في تنمية طرابلس كمقدمة لا بدّ منها لاستعادة تواصلها مع المناطق الشمالية، باعتبارها عاصمتها، واللبنانية باعتبارها العاصمة الثانية في لبنان.