من سورية الى أوكرانيا… حرب باردة بأسلوب جديد

د. وسام اسماعيل

لم يكن للحرب السورية ذاك الأثر البالغ الذي خلفته الأزمة الأوكرانية في بناء النظام العالمي الجديد، إذ بقيت المواجهة الأميركية الروسية دون مستوى الحدث واقتصرت على بعض المشادات الإعلامية في مجلس الأمن وعلى المنابر الدولية، من دون أن يؤدي ذلك إلى توتير العلاقات بينهما.

على مستوى التحليلات، تنوعت الآراء حول الانغماس الروسي في الأزمة السورية: فمن قائل ببراغماتية روسية تسعى الى استغلال التورط الأميركي واستنزافه وإرهاقه بهدف تحسين موقع روسيا التفاوضي عندما تحين لحظة تصفية الحساب، الى آخر متيّقن من أن هذه الحرب هي مواجهة بين مشروع أميركي يسعى الى تجديد نفسه وآخر ممانع مؤمن بقدرته على رسم خريطة جديدة للمنطقة تتناسب مع تطلعاته. وما موقع روسيا في هذا المحور إلا كشريك يسعى إلى كسب مجال للمناورة وقدرة على انتزاع الامتيازات في حالة النجاح ولا تلحق به أي خسارة في حالة الهزيمة.

لعب صمود النظام السوري المدعوم من محور الممانعة دوراً في حضّ دوائر القرار الروسي على ضرورة انتهاز الفرصة لتوجيه الضربة القاضية للأحادية الأميركية والعمل على بناء نظام عالمي جديد على أنقاضها، فترافقت انتصارات النظام وحلفائه في سورية مع رفع الكرملين سقف خطابه ودعوته الطرف الأميركي الى ضرورة التزام مبادىء القانون الدولي والامتناع عن إسقاط الأنظمة المناوئة بالقوة، ما اعتبره البعض دعوة جريئة إلى بناء نظام عالميّ جديد أساسه تعّدد القطب، وجوهره احترام مبادئ القانون الدولي.

جاء الرد الأميركي سريعاً، مستغلاً مجال المناورة الواسع الذي يملكه في أوروبا، فوجه صفعة قوية إلى بوتين إذ أدت التظاهرات المدعومة أميركياً إلى عزل الرئيس الأوكراني المقرب من روسيا يانكوفيتش، بعد رفضه اتفاقية تؤمن المزيد من التقارب مع أوروبا على حساب العلاقات مع روسيا.

اتخذت الولايات المتحدة قرار الرد في أوكرانيا بناء على تقديرات حول استمرار التزام موسكو بقواعد الاشتباك والخطوط الحمراء التي حكمت العلاقات الثنائية بين البلدين منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، فدوائر القرار الأميركية كانت تراهن على هرولة روسيا لطلب تسوية الأزمة في أوكرانيا بما يحفظ مصالحها الاستراتيجية وتحالفاتها مع جوارها القريب، مقابل التخلي عن دعم نظام الرئيس بشار الأسد.

غير أنّ الحسابات الأميركية لم تتطابق مع الرد الروسي الذي كان مفاجئاً وذهب في اتجاه فصل الملفات الدولية واتخاذ خيار المواجهة في أوكرانيا من دون تقديم أي تنازل في سورية بدليل أن الدعم الروسي لانفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا حصل مترافقاً مع الدعم الصريح لترشح الرئيس الأسد لولاية ثالثة.

حتى هذه اللحظة، لا نستطيع القول إن روسيا نجحت في فرض تصورها حول النظام العالمي الجديد، فالحرب في سورية لم تتوقف، وأوكرانيا ما زالت خارج الحظيرة الروسية، والإدارة الأميركية لم تقتنع بعد بضرورة الانكفاء حفاظاً على ما تبقى لها من مكتسبات. لكننا نستطيع القول إن الرئيس بوتين أمسك بزمام المبادرة متبنياً خيار المواجهة المباشرة بما يمكن أن نطلق عليه أسلوب الملاكمة بالايدي العارية بعدما كانت الحرب بالوكالة أهم ما يميّز حقبة الحرب الباردة.

بلى، إنها حرب باردة بأسلوب جديد، قوامه المواجهة المباشرة بين القوتين على نحو لا يؤدي الى انفلات الحوادث الى حرب شاملة .

دكتور في العلوم السياسية وأستاذ جامعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى