الصهيونية للعثمانية «تشكرات أفندم تشكرات»…
سعد الله الخليل
في علم القانون تسقط بعض الأحكام بالتقادم، وفي العرف الاجتماعي والإنساني يسعف النسيان صاحبه مع مرور السنين لتجاوز مآسيه، وفي تاريخ الدول والشعوب ثمة إمكانية لتجاوز الهفوات والصفحات السوداء المسيئة بحق أحد مكوناتها أو أكثر، وحدها المجازر لا تسقط بالتقادم وتبقى شاهداً على همجية فاعليها ودمويتهم، بغضّ النظر عن مبرّراتهم وظروف ارتكابها، كتلك التي ارتكبها الحاكم العثماني عبد الحميد قبل قرن من الزمن بحق الأرمن، والتي أدّت إلى قتل وصلب وتشريد قسم كبير من مسيحيّي تركيا في حملة إبادة جماعية منظمة تعدّ الثانية من حيث حجم ضحاياها بعد المحرقة النازية مع فارق مهم وهو إثبات المجازر التركية والتشكيك بالمحرقة النازية.
أكثر من مليون ونصف مليون أرمني نفذ بحقهم السلطان العثماني حكماً جماعياً بالقتل بعد أن اتهمهم بالخيانة والعمل لصالح الامبراطورية الروسية، ومن اسطنبول انطلقت قوافل الأرمن المبعدين باتجاه الصحراء حيث لا طعام ولا شراب، تركهم السلطان بين ناري الطبيعة والظروف المأساوية من جهة، والمجازر العشوائية التي ارتكتبها الجندرمة التركية من قتل وصلب واغتصاب حتى الموت، بغضّ النظر عن العمر أو الجنس، حتى توفي في البراري مئات الآلاف في مشهد تكرّر عام 1948 عقب الاجتياح «الإسرائيلي» للأراضي الفلسطينية.
لو صحّت رواية تركيا والتي يدافع بها العثماني الجديد أردوغان لقتل أجداده للأرمن وتهجيرهم، بتحوّل اللجان الثورية الأرمينية الى عصابات وميليشيات عسكرية تقاتل مع الدولة الروسية وتطالب بالانفصال عن تركيا، فهل يبرّر للحاكم الإبادة الجماعية للشعب في حال طلبهم للحقوق المسلوبة والحرية؟ ولو كان الجواب بحسب العقلية العثمانية نعم… فلماذا يدعم آردوغان ما يصفه حركات تحرّر الشعوب المظلومة من وجة نظره في وجه الحكام الشرعيين، ويمدّها بالسلاح في سورية ويتهم السلطات بما لا يقارن بما قام به أجداده قبل قرن؟ كما أنّ وجهة النظر التركية تطرح تساؤلاً عن مبرّرات قتل وتهجير نصف مليون سرياني وكلداني وآشوري في العام نفسه بشكل استباقي، وبتهمة النية بالتآمر ضدّ الدولة، فكانت مجازر «سيفو» الاستباقية خشية أن تسلك تلك المكوّنات سلوك الأرمن.
تمكنت تركيا من خفض نسبة التواجد المسيحي في تركيا من 33 في المئة قبل المجازر العثمانية إلى أقلّ من 1 في المئة في عهد سلطان القرن الجديد أردوغان جراء سياسات السلطنة، قبل المجازر وبعدها من فرض الجزية وعمليات التبادل السكاني وأشهرها ما مارسته بالقوة بحق اليونانيين الأرثوذكس من اسطنبول عام 1955، ومصادرة الكنائس ومنع بنائها وهي عقوبات لا تزال تمارس حتى اليوم وأروقة المحاكم التركية تشهد للمئات من الدعاوى المقامة على حكومة الحرية والعدالة بحق الاعتداء على الأوقاف الكنسية.
نجح السلطان العثماني بالتأسيس لفكر إقصائي قائم على التطهير العرقي في المنطقة رسم الطريق للصهيونية العالمية بالسير عليه لارتكاب عصابات اليهود تجاه الفلسطينين ما ارتكبه السلطان العثماني بحق رعاياه من تشريد وقتل، ولعلّ هذا الفكر المشترك ما يفسّر التقارب وتقاطع المصالح بين العثمانية والصهيونية عبر التاريخ بعيداً عن بهلوانيات أردوغان التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فكرٌ ما زال يحمله حتى الساعة وإنْ استبدل طربوش السلاطين بربطة عنق باريسية وتشدّق بالديمقراطية، وهي شعارات سقطت مع أول فرصة للنيل من دماء من قتلهم أجداده فأشرف على دخول مرتزقته إلى كَسَب وتل تمر من المعابر التركية الرسمية ليعيد التاريخ نفسه وتمارس ما مارسه أجداده، وكأنّ دماء أكثر من مليوني مدني لم تشبع شهية العثمانية للدم وما زالت تطالبه بالمزيد.
بعد قرن من المجازر العثمانية المتواصلة تقول الصهيونية لصديقتها العثمانية «تشكرات أفندم تشكرات» ليأتي الردّ من أنقرة بالعبرية «باڤاكاشاه» لا شكر على واجب.
«توب نيوز»