إيران النووية…
عصام الحسيني
منذ أن وجد الإنسان على الأرض، وجدت معه ضرورات أساسية ترتبط بحاجاته الأولية، من غذاء وأمن ومسكن، وهي ما احتاجها بشدة، في الحقبة التاريخية الأولى من مراحل وجوده، إنسان الكهف أو المغارة.
ومع مراحل تطوّره التاريخي، برزت حاجات أخرى، مرتبطة بطبيعة الحياة الجديدة، والتي تسعى إلى إخراجه من المرحلة المشاعية الأولى، إلى مرحلة المدنية.
ولما كان الإنسان هو عنصر متغيّر، يسعي نحو العيش في الحياة بشكل أكثر سعادة، احتاج إلى منظومة جديدة من القيم والقواعد الاجتماعية، دعامتها الأساسية هي تلبية الحاجات، الناتجة عن صيرورة هذا التطور.
لكن هذه الحاجات، وانْ كانت كلّ حاجة ألم، لا يمكن الوصول إلى إشباعها كلها، بسبب تعدّدها وتنوّعها من جهة، وبسبب ندرة المواد الضرورية لإشباعها.
من هنا برزت المشكلة التاريخية، والتي تتلخص بوجود حاجات متعدّدة ومتنوّعة، مقابل وجود إمكانات إشباع محدودة، والتي عرفت في ما بعد بالمشكلة الاقتصادية.
وفي التطور التاريخي للوجود الإنساني، من الإنسان الفرد في المشاعية الأولى، إلى إنسان المجموعة، ثم إلى إنسان الجماعة، وصولاً إلى إنسان المدنية، كانت المشكلة الاقتصادية قائمة، وإنْ بصور مختلفة، لاختلاف طبيعة الحاجات وأولوياتها، وكان البحث عن حلّ لهذه المشكلة قائماً، أكان على مستوى الفرد أو الجماعة أو النظام الاجتماعي السياسي.
وكان يعبّر في الكثير من الحالات، عن صور من المنازعات والعنف، في محاولة الحصول على مواد الإشباع، بين مختلف الشرائح الاجتماعية، بين من يملك وبين من لا يملك.
وأمام هذا الواقع المأزوم، كانت الضرورة في وقف هذه المنازعات إذا أمكن، أو ضرورة تنظيمها وقوننتها، خاصة عندما تخرج من إطار المجتمع الواحد، إلى إطار المجتمعات الوطنية أو القومية.
من هنا ظهرت العلاقات الدولية، كحاجة إنسانية عامة، عرفت منذ التاريخ القديم، كضرورة في زمن السلم والحرب، ضرورة تنظيم النزاع والحدّ من خسائره.
وهو لذلك يعتبر علماً تجريبياً، أيّ أنه اكتسب أسسه من علوم الواقع والتجارب الإنسانية، وليس نظرية مجرّدة.
لقد مرّت العلاقات الدولية في مختلف مراحل تطوّرها، بمفاهيم متعدّدة، مرتبطة بطبيعة التطور الإنساني وسلوكه، لكن جوهرها كان واحداً لم يتغيّر، وهو «القوة».
إنّ مفهوم «القوة» في العلاقات الدولية، كان من أبرز المفاهيم على الإطلاق، رغم ظهور مفاهيم ومؤسسات أخرى على درجة من الأهمية، كمفهوم «التوازن في العلاقات الدولية» أو مفهوم «الأمن الجماعي»، وهي مفاهيم تهدف إلى تنظيم الاختلافات في العلاقات بين الدول، وتحقيق الانسجام والسلم بينها.
وقد عبّر عن هذا الواقع، كلّ من سيبكمان ومورغانتو بالقول «إنّ العلاقات الدولية هي في جوهرها، مجرّد صراع على السلطة داخل المجتمع العالمي».
ثم أتى القانون الدولي، ليربط العلاقات الدولية بالمعرفة القانونية، بمنهجها التحليلي الشكلي، معبّراً عنه أكثر ما يكون، بميثاق الأمم المتحدة، الذي يعتبر أقرب إلى دستور دولي، بروحه ونصوصه.
لقد كرّس ميثاق الأمم المتحدة، مفهوم العلاقات الدولية، ضمن نظرية الأمن الجماعي، وأعطاها البعد القانوني، بتنظيمه لحالات الاختلافات والنزاعات، وهذا من الناحية النظرية، إنجاز ذات بعد إنساني حضاري.
لقد أوضح الميثاق في مقدّمته، احترامه للحقوق الأساسية للإنسان، وبمبدأ المساواة عندما قال نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية .
لقد نصت المادة 1 الفقرة 3 من الميثاق على «تحقيق التعاون الدولي على حلّ المسائل الدولية ذات الصبغة والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء .
وكذلك المادة 2 الفقرة 3 تقول يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر .
والمادة 55 أوضحت رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية ودية بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق والواجبات بين الشعوب، وبأن يكون لكلّ منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على:
أ تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكلّ فرد والنهوض بعوامل التطوّر والتقدّم الاقتصادي والاجتماعي.
ب تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.
ج أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً .
نرى مما تقدّم من ميثاق الأمم المتحدة، نقطتين أساسيتين ذات صلة هما:
أولا: إنّ الميثاق دعا إلى اعتماد الوسائل السلمية في فضّ النزاعات الدولية، وعدم تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر، ضمن نظرية الأمن الجماعي، وهذا مقصد أساسي لقيام هيئة الأمم المتحدة.
ثانياً: أكد الميثاق في مقدّمته وفي الكثير من مواده، على مبدأ المساواة بين الشعوب، وفي احترامه للحقوق الإنسانية الأساسية، بلا تمييز لأيّ سبب كان.
وفي مقاربة للملف النووي الإيراني، والمفاوضات الجارية مع المجتمع الدولي، وما يمكن التوصل إليه من نتائج ايجابية بشأنه، نستنتج التالي:
أولاً: لقد التزمت الأطراف الدولية، بمبدأ اعتماد الوسائل السلمية، في معالجة أزمة دولية، من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين، وهذا مثال إيجابي يجب تعميمه والاستفادة منه، في إطار الدروس المستقاة في العلاقات الدولية.
ثانياً: لقد اعترف المجتمع الدولي، وضمن مبدأ الحق والمساواة لكلّ الشعوب، في الاستفادة من العلوم لتحقيق مستوى اعلى للمعيشة، ولتيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
وعليه، إنّ طريقة المعالجة لأزمة دولية، من خلال ما نصّت عليه المواثيق الدولية، وخاصة ميثاق الأمم المتحدة، ونجاح هذه المعالجة بشكل سلمي، يحفظ السلم والأمن الدوليين، ويعطي انطباعاً إيجابياً، حول نظرية الأمن الجماعي المطبّق من حيث الشكل، ومثال يمكن اعتماده لحلّ نزاعات دولية أخرى.
لكن دون إغفال العامل الأساسي الجوهري في المضمون، وهو عامل «القوة» التي استندت إليه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، القائم على ما أقرّه القانون الدولي، من حقها في الاستفادة من المقدرات العلمية النووية لإغراض سلمية، في رفع مستوى المعيشة لشعبها، مساواة مع باقي شعوب العالم.
لقد استندت إيران في مفاوضاتها إلى عوامل عدة، شكلت مصدر «القوة» لديها وهي:
أ الفتوى الشرعية الدينية التي تحرّم السلاح النووي.
ب الديبلوماسية الهادئة الناجحة، المرتكزة على مبادئ القانون الدولي، والتي استمرّت لأكثر من عشرة أعوام.
ج إيمانها بحقوقها المشروعة، والتي ضمّنتها معظم المواثيق الدولية.
لقد أعطت التجربة الإيرانية الناجحة، أمثولة لدول العالم الثالث، في إمكانية الخروج من حالة التبعية للغرب، والاعتماد على قدرات ومقدرات شعوبها، في التحرّر من الارتهان للآخر، من خلال ما أقرّه القانون الدولي، وما يمكن أن يعبّر عنه بالعلاقات الدولية.
إيران النووية السلمية، انتصار للشعوب التي يمارس عليها الحجر الفكري، في إمكانية الخروج من حالة الاستتباع الحضاري، إلى حالة الإنسان الحضارة.