المحكمة اغتالت نفسها واغتالت وليد جنبلاط معها
روزانا رمّال
كان وليد جنبلاط دائماً ساعة توقيت الأميركيين في لبنان، وبمعزل عن كونه متقلباً سياسياً، إلا أنه وبلا شك سياسي من الطراز الرفيع والسياسي غالباً يتقن لعبة المصالح.
يشبه جنبلاط الذي جاء زعيماً بالوراثة الأميركيين كثيراً في سلوكهم السياسي فهو سياسي لا يحرجه التقلب طالما تشاء المصلحة الخاصة والعامة لحزبه ذلك، تماماً كالولايات المتحدة التي لم يحرجها أبداً دعم الإخوان المسلمين في مصر، ثم دعم الرئيس عبد الفتاح السيسي بقوة مطلقة تعبير «أخطأنا التقدير».
في الحالتين دعمت أميركا الفريق المصري الفائز بقوة. إذاً هذا ليس تقلباً بل قرار، وبالتالي فإنّ جنبلاط لا يتقلب إنما يقرّر ويدعم موقفه بقوة.
لن يحرج الولايات المتحدة أبداً أن تعترف قريباً بشرعية الرئيس السوري بشار الأسد وتعيد فتح سفارتها في دمشق، إذا كانت المصلحة تتطلب ذلك.
لم تحرج النائب وليد جنبلاط مسامحته سورية على «جريمة» اغتيال والده المفترضة من دون دلائل، ولن تحرجه العودة مجدّداً إلى صداقة سورية، إذا طرح الأمر عليه. لماذا ؟ لأنه وليد جنبلاط.
مؤخراً، كان جنبلاط ساعة توقيت لبنان الأميركية لأنه يعرف جيداً كيف تفكر تجاه الشرق الأوسط والأهم أنه لطالما كانت له علاقات جيدة جداً مع سفرائها في لبنان، وبعضها ممتاز مثل تلك التي جمعته بجيفري فيلتمان. لطالما أشارت التبدلات في مواقف جنبلاط إلى أنّ تغيراً ما في السياسة الأميركية قادم على المنطقة، حتى أنه كان يستشرف ما سيجري فيتموضع قبل سنة من بعض الاستحقاقات، أي قبل الجميع. و بعد ذلك يدرك كلّ من تابع أنه تغير قبل الجميع وتموضع، وفق السياسات التي كانت تحضر للمنطقة.
بمجرد خروح سورية، بقرار أميركي، من لبنان ساءت العلاقة بين وليد جنبلاط ودمشق.
أما توقيت شهادة جنبلاط في المحكمة الدولية فهو يأتي في سياق الساعة نفسها، التي تحرك سياسته و قراراته وفي وقت شديد الدقة يمرّ على المنطقة بين جولات حرب في القلمون والأنبار وجسر الشغور والاشتباكات على الحدود السعودية والحرب على اليمن.
جولة وليد جنبلاط واحدة من الجولات التي كان من المفترض أن تكون حاسمة في محكمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة في البلاد وبحسابات المنطقة.
المفارقة أنه بدل أن تحسم شهادة جنبلاط وجهة المحكمة كونه أقوى وجوه فريقه، كانت أكثر الشهادات لغطاً.
لم يعتد النائب وليد جنبلاط على الجلوس طويلاً في مثل هذه الظروف والإجابة على أسئلة دقيقة. لم يعتد أن لا يكون متزعماً جلساته، ولم يعتد كثرة المناقشة والمناكفة معه وأن يتقيد أمام الملايين بجلسة يكون فيها مستجوباً مهما كان نوع السؤال. حتى في حواراته السياسية التلفزيونية بجيب وليد جنبلاط غالباً من دون جدال أو يفرض على محاوره تلقائياً نوعية الحديث وأسلوبه من طريقة جوابه فلا يتمادى المحاور كثيراً ليكمل جنبلاط الحديث مرتاحاً.
خضع جنبلاط لجلسات استجواب، على مدى أيام، حول اغتيال الحريري أمام هيئة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي. والمفارقة أنّ مجمل أجوبة جنبلاط تفسّر تهرّباً من كلام سبق أن قاله ولا ينسجم مع ما قدمه أمام المحكمة حتى طغت عبارات مثل آسف، لا أتذكر، على الإجابات.
لم يكن مرتاحاً أبداً وكان ذلك واضحاً فقد طلب الادعاء من رئيس المحكمة أن ياخذ استراحة فردّ الأخير: «لم يحن موعدها بعد» إلى أن طلب الاستراحة وليد جنبلاط بنفسه.
أحد الأمثلة كانت أنّ السفير الأميركي جيفري فيلتمان قال بالوثائق التي أرسلها إلى خارجية بلاده أن الراحل الحريري سلم لشيراك لائحة بأسماء مقترحين للرئاسة لمناقشتها مع الأسد. فسأل الدفاع وليد جنبلاط: هل كنت على علم بذلك؟ فأجاب: لا أتذكر .
المفارقة أنّ وليد جنبلاط تذكر أحداثاً وقعت منذ عشرين سنة ولم يتذكر أحداثاً وقعت من أعوام قليلة. فكيف تكون ذاكرته ضعيفة في هذه الحال وهو قادم إلى محكمة يفترض أن لا يترك لها أي مجال لطرح معايير إفادته للجدل وإضعافها؟
كان جنبلاط يعتبر الشاهد الذي يعلي اسهم الاتهام الذي تريد المحكمة توجيهه، بالرغم من معرفتها أنه سيتفادى اتهام حزب الله ، وكان مفترضاً أن يستثمر حجمه ومكانه السياسين كمضبطة لسورية، فتحول إلى هبوط مريع لما يمثله فأظهر ركاكة الفريق الذي يعتبر جنبلاط أقوى من فيه.
كلّ ما كان مرسوماً من دوافع سياسية لهذه المحكمة ومخططاً له عبر كلّ الوجوه البارزة التي سبقته كفؤاد السنيورة ومروان حمادة ليتوجها أخيراً وليد جنبلاط سقطت سقطة مريعة بين الثغرات والهروب، فضاع كلّ التراكم لتعود إلى الصفر.
أخيراً، قال الدفاع تقول إنّ «حويجي» قاتل والدك بأمر من حافظ الأسد. فردّ جنبلاط : نعم صحيح. فسأله: هل اتخذت إجراء أو محاكمة حينها ؟ فقال: لا.
الدفاع : لماذا لم تأخذ إجراء من أجل والدك وتأخذه من أجل رفيق الحريري؟
هل الحقيقة خاضعة للمصلحة، أم أنّ الأمر مجرد بحث عن الحقيقة؟
المحكمة الدولية التي استعانت بإفادة جنبلاط حول اغتيال الحريري اغتالت المحكمة واغتالت وليد جنبلاط معها.