الوطنية الصعبة… والعروبة الصعبة
معن بشور
تحضرني ونحن نلتقي في هذا الصرح الثقافي الحضاري كلمة لمن يحمل هذا الصرح اسمه، وهو سماحة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، يقول فيها: «في هذه المنطقة أكثريتان عربية وفيها المسلم وغير المسلم، ومسلمة فيها العربي وغير العربي»، وهي كلمة بالغة الأهمية لكي نتحرّر جميعاً من عقدة الأقليات التي تتحوّل مع تفاقم ظاهرة الغلوّ والتطرف والتوحش إلى عقدة بالغة الخطورة تتحكم بعلاقاتنا ومسار حياتنا، فيسعى البعض بِاسم الأكثرية إلى إقصاء من يعتبرهم أقليات وتهميشهم واجتثاثهم، فيما يدعو البعض الآخر من يعتبرهم أقليات إلى التحالف في ما بينهم لمواجهة طغيان الأكثرية، فنصبح أسرى احتراب واقتتال يمتدّ إلى مئات السنين.
هنا التمسك بالعروبة التي يشكّل الإسلام روحها، ويشكّل المسيحيون العرب عماداً من أعمدة نهضتها، وبعد التأكيد عليها كهوية ثقافية وحضارية جامعة لكلّ من يجمعهم تاريخ المنطقة وجغرافيتها العربية، هي أحد أبرز المداخل للخروج من عقد الأكثرية والأقليات التي تلفّ عنق الأمة وتضغط عليها، كما تتسلل إلى مسام أجسادنا وخلاياها لتفتك بها.
وسيرة الشهيد الكبير عبد الكريم الخليل والعديد من شهداء السادس من أيار، هي واحدة من النماذج التي تؤكد على متانة العروبة وعمقها سواء بكون هؤلاء الشهداء قد جسّدوا بتنوّع بيئاتهم ومشاربهم والأقطار التي انتسبوا إليها وحدة الأمة العربية وعروبتها، أو لأنهم رأوا في العروبة هوية تنطوي على مشروع نهوض وإصلاح وتحرّر وحرية، فلا عروبة مع التخلّف، ولا عروبة مع الاستبداد، ولا عروبة مع التبعية، ولا عروبة مع الاستتباع.
والمنتدى الأدبي الذي أسسه الشهيد الشاب عبد الكريم الخليل قبل مائة عام والذي يُعاد تأسيسه اليوم على يد نخبة من أبناء هذه المنطقة الآبية الشامخة، وبالتعاون مع رابطة آل الخليل الناهضة والوفية ، حمل في اسمه عنوانين رئيسيين يحتاجهما العرب اليوم على طريق نهضتهم وتحرّرهم وصون وحدتهم، العنوان الأول هو «الحوار» الذي تشكل المنتديات إحدى مظلاته وآلياته، والعنوان الثاني هو «الثقافة» التي يشكل الأدب ركناً رئيسياً من أركانها، ففي أمة غنية بالتنوّع كأمتنا يصبح الحوار أداتها لمعالجة كل التحديات، وتصبح الثقافة حصناً للأمة وضمانة لتجذّر عروبتها التي هي في الأساس هويتها الثقافية مهما حاولوا طمسها وتمزيقها بشتى السبل.
وفي مواجهة الكثير من التضليل، وما أكثره هذه الأيام، ومن التجني والظلم وما أوسع من انتشارها في هذه المرحلة، يكتشف الباحث في سيرة الشهيد الذي نلتقي حول ذكراه المئوية اليوم ما يدحض كلّ محاولات التشويه التي يتعمّدها البعض لشطب مرحلة هامة من مراحل نضالنا وتشكّل وعينا القومي، وهو تشويه نجح في الالتفاف على ذكرى 6 أيار وإلغاء اعتبارها مناسبة وطنية حتى قال البعض إنّ المشكلة في شهداء 6 أيار إنهم من كلّ الطوائف فلم يجدوا أحداً يحتفل بذكرى استشهادهم، في حين أنهم لو كانوا منتمين إلى طائفة واحدة لوجدنا الاحتفالات تعمّ لبنان ومناطق عديدة منه.
فحال عبد الكريم الخليل، كحال العديد من إخوانه من شهداء 6 أيار، هي تعبير عما يمكن تسميته هذه الأيام بالوطنية الصعبة، والعروبة الصعبة، والإيمان الصعب.
فوطنيتهم حالت دون قبولهم بالاستبداد ولكنها أيضاً حالت دون استقوائهم بالأجنبي بذريعة مواجهة الاستبداد…
وعروبتهم حالت دون قبولهم بإلغاء هويتهم القومية، لكنها حالت أيضاً دون قبولهم باستخدام العروبة لتفكيك دولة كبيرة في هذا الشرق، لذلك كان إصرار أغلبهم، ومن بينهم الشهيد عبد الكريم الخليل، على الإصلاح واللامركزية والمشاركة المتكافئة بين مكوّنات هذه الدولة…
كذلك حال إيمانهم بالرسالات السماوية دون قبولهم باستغلال القيّمين على السلطنة آنذاك، الإسلام للطغيان أو الهيمنة، أو باستغلال بعض معارضيهم للمسيحية لكي تصبح دعوة للانكفاء والانفكاك عن بيئتهم، وقد رفضوا جميعاً أن تنسب أخطاء السلطة القائمة آنذاك وخطاياها لضرب الإسلام وتشويه صورته، أو لتصوير المسيحيين كمواطنين من الدرجة الثانية فتمسكوا بالعروبة كهوية، وبالمواطنة للمساواة في الحقوق والواجبات.
ومنذ قرن ونيّف، وربما قبله، ما زلنا نعيش هذه المعادلة الصعبة، الوطنية الصعبة، والعروبة الصعبة، والإيمان الصعب، وندرك أنّ قدرنا هو فك عقد تلك المعادلة والانطلاق نحو فجر عربي جديد، ونهضة عربية مشرقة، ولنا في الشهيد عبد الكريم الخليل والعديد من شهدائنا، المشعل والقدوة والنموذج…
لا بل إنّ تكامل الحوار، بل اكتماله بالثقافة، بل وانتشار ثقافة الحوار وعمادها القبول بالآخر هو الذي يوصلنا جميعاً إلى برّ الأمان في زمن تتلاطم فيه الأمواج، وتتفاقم فيه الأزمات، وتتعاظم فيه المحن، لأنه يؤكد على فكرة المشاركة داخل الدولة، كبيرة أو صغيرة، بين أمم أو جماعات، بين أقوام أو طوائف ومذاهب، لأنّ ما من طغيان فئة على فئة إلا وحمل في داخله بذور الانفجار، وما من هيمنة لكبير أو صغير، أو لقوي أو ضعيف إلا وتؤسّس لاحتقان ستظهر نتائجه مع الأيام.
لذلك لم تكن دعوة الخليل وصحبه في عمقها سوى دعوة للمشاركة، رفضها من ظنّ أنّ سطوته دائمة وعنجهيته راسخة فدعته قدرته الى ظلم الناس متناسياً قدرة الله عليه.
واليوم تتجسّد شهادة الخليل وصحبه، دعوة إلى المشاركة سواء على مستوى الوطن أو الأمة أو الإقليم، لأنّ المشاركة التي ترجمها اللبنانيون ميثاقية، تبقى صمام الأمان في وجه كلّ الأعاصير التي تعصف بنا كوطن وكأمة وكإقليم، بل هي حصن المقاومة ودرعها مثلما المقاومة دعوة مستمرة للمشاركة في الدفاع عن الوطن وصون استقلاله.
نص الكلمة التي ألقيت في الاحتفال الذي أقامته رابطة آل الخليل والمنتدى الأدبي في مجمع الإمام شمس الدين الثقافي التربوي، في الذكرى المئوية لاستشهاد عبد الكريم الخليل والذكرى السنوية لشهداء السادس من أيار.
المنسق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية