بعد مرور 66 سنة على النكبة أين حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؟
رامز مصطفى
جيداً يُدرك الجميع الخلفية التاريخية والأسباب الحقيقية للوجود الفلسطيني في لبنان. فهُم، أيّ الفلسطينيين، لم يتعرّضوا في وطنهم لكارثة إنسانية ناجمة عن زلزال أو إعصار مدمّر، أو كارثة بيئية أو مرض قاتل. الوجود الفلسطيني في لبنان كما في دول الشتات المحيطة بفلسطين كان بسبب احتلال إجلائيّ إحلالي تمثل بزرع شعب لا يملك في فلسطين أيّ حقوق تاريخية. فكان الطرد الأكثر وحشية، والجريمة الأكثر بشاعة تلك التي ارتكبها العالم المتمدّن بحق الشعب الفلسطيني عام 1948 عن سابق تصميم وتصوّر. إذن يُستدلّ من ذلك أنّ هذه القضية هي قضية شعب وأرض وعليه فهي سياسية بامتياز بأبعاد متعددة ومنها الإنساني. ومحور حديثنا هو في الأكثر مأسوية ومعاناة، والذي للأسف شكل الصفحة السوداء في تاريخ لبنان في معالجاته الملف الفلسطيني. وهو الذي نعتزّ به كفلسطينيين ونقدّر تضحيات أبنائه وقواه الوطنية والإسلامية في سبيل قضية فلسطين ونصرتها. هذه التضحيات لم تعفِ الدولة اللبنانية على المستوى الرسمي من مسؤولياتها في حرمان الفلسطينيين من كافة حقوقهم الاجتماعية والمدنية والاقتصادية وحق العمل بموجب المادة الأولى من قانون دخول الأجانب إلى لبنان والإقامة فيه والصادر عام 1962، حيث عرّف الأجنبي بالآتي: الأجنبي بمعناه المقصود أن كل شخص حقيقي أو معنوي من غير التابعية اللبنانية. وترتب على ذلك صدور القرار 2002/147 والذي حصر حق ممارسة أعمال مهن محددة باللبنانيين مساوياً الفلسطيني بالأجنبي بالاستناد إلى المرسوم رقم 17561 تاريخ أيلول 1968 والمتعلق بتنظيم عمل الأجانب والذي اشترط حصول الأجنبي على إجازة عمل.
وما زاد من حدة هذا الحرمان والإمعان فيه ما صدر عن حكومة الرئيس رفيق الحريري آنذاك من مرسوم يفرض بموجبه ضرورة حصول الفلسطينيين على تأشيرة دخول وخروج، سرعان ما قام الرئيس الحص بإلغائه عام 1998. وكذلك التشريع الذي صدر عن مجلس النواب في نيسان من عام 2001 قضى بتعديل قانون 1969 والمتضمن اكتساب غير اللبنانيين حقوقاً عينية عقارية، إذ نصّ التعديل على حرمان أي شخص لا يحمل جنسية من دولة معترف بها، أو أي شخص يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين. وبذلك، تعرض الفلسطيني لظلم مضاعف. وفتح لبنان أمام تملك الأجانب تحت ذريعة تشجيع الاستثمار في لبنان من أجل سد العجز الاقتصادي المتمثل في الديون، ما أفسح المجال أمام شركات يمتلكها مستثمرون «إسرائيليون» أو أجانب وحتى عرب، يمولهم رجال أعمال «إسرائيليون». وعلى رغم قيام الوزير طراد حمادة مشكوراً عام 2005 باستثناء الفلسطينيين اللبنانيين من أحكام القرار 2002/147 عملاً بالمادة الثالثة ممّن تتوفر فيهم شروط المادة الثامنة من مرسوم 1967، ثم أتى المرسوم المقرّ عام 2010 ليمثل خطوة خجولة نحو منح بعض التسهيلات للفلسطينيين من ضمنها منحهم إجازات العمل من دون رسوم. إلا أن ذلك لم يغير في الواقع شيئاً على الإطلاق.
نضيف إلى سلة هذا الحرمان ما تعرض له مخيم نهر البارد من تدمير وتشريد أهله البالغ عددهم ما يقارب 34 ألف نسمة وما رافق ذلك من إجراءات أمنية في محيط المخيم تعرض يومياً الفلسطينيين للأذى النفسي والمعنوي والمادي، وعلى رغم بدء عمليات إعادة البناء والتي تسير ببطء شديد، فإن الخوف لا يزال قائماً من توقفه في أيّ لحظة لسبب أو آخر.
وقد رفضت الدولة اللبنانية وخلال ما يزيد عن ستة عقود التعاطي مع قضية اللاجئين من منظور وبعدٍ سياسييَن، لا بل تعمدت وما زالت التعامل مع الملف الفلسطيني من بعده ومنظوره الأمنيين. وهي قد تحينت الفرصة من أجل الانقضاض على اتفاق القاهرة عام 1969 والذي نظم الوجود الفلسطيني بكل عناوينه بما فيه الوجود المسلح، إذ ألغته ومن طرف واحد عام 1991، وكأن أحد أهداف الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 قد تحقق على رغم إسقاط اتفاق 17 أيار. هذا الرفض والذي لا سند قانونياً أو تشريعياً له، إذ وقعت وما زالت الدولة اللبنانية في تناقض حاد بين سلوكها وممارساتها، وبين الوضع التشريعي للفلسطينيين في لبنان، والتي نظمت بموجب مراسيم عدّة:
1.مرسوم عام 1950 بِاسم اللجنة المركزية لشؤون اللاجئين ويرأسها جورج حيموري وقد كلف الاجتماع مع رئيس وكالة «أونروا» والتباحث معه من أجل تشغيل اللاجئين في مشروعات خاصة في الجنوب والبقاع ومنطقة الشمال.
2.مرسوم عام 1959 باستحداث مديرية شؤون اللاجئين، وألحِقَت بوزارة الداخلية ومن مهامها الاتصال بوكالة الغوث، وتأمين العناية بالشؤون الاجتماعية والصحية وتنظيم أمورهم الشخصية وأمكنة إقامتهم وحركة تنقلهم.
3.مرسوم عام 1960 وقضى بتشكيل هيئة عليا لشؤون اللاجئين بإشراف الخارجية اللبنانية ومهمتها الاهتمام بمتابعة الملف الفلسطيني من جوانبه المدنية المتصلة بالأوراق والوثائق الرسمية، والاقتصادية والسياسية.
ولم تقف الدولة اللبنانية عند هذا الحد من التناقضات، فهي عملت عمداً على تغييب التزاماتها على الصعيدين العربي والدولي، التي التزمت بها ومنها:
1.وكالة «أونروا» منذ تشكيلها عام 1949، اتخذت من بيروت مقراً رئيساً لوكالة الغوث، بموجب مذكرة التفاهم الموقعة مع الحكومة اللبنانية.
2.الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ شارك لبنان في صوغه.
3.بروتوكول الدار البيضاء عام 1964، وفيه يعامل الفلسطيني في الدول العربية التي يقيم فيها معاملة الرعايا العرب في السفر والإقامة والاحتفاظ بجنسيتهم، وخلق فرص العمل. وفق المادة الأولى منه.
4.عام 1972 وافق لبنان على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 والذي كفل حقوقاً أصلية للإنسان، لا يمكن التنازل عنها من ضمنها الحرية والإقرار بشخصيته القانونية.
5.العهد الدولي الخاص بالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية عام 1966، فقد وافق لبنان عليه أيضاً في أيلول 1972، والذي يحفظ الحق في العيش بمستوى كافٍ وكذلك العمل والتملك وتشكيل النقابات ومؤسساته الثقافية وحقه في الصحة والتعليم.
6.توقيعه على الاتفاقية الخاصة بإلغاء كافة أشكال التمييز العنصري والصادرة عام 1963. وذلك في حزيران 1971.
7.مقدمة الدستور اللبناني والمعدل عام 1991، إذ ورد فيها أن لبنان عضو عامل ومؤسس في جامعة الدول العربية ويلتزم مواثيقها، وكما أنه عضو مؤسس وعامل في الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع المجالات.
8.ما نصت عليه المادة رقم 2 من أصول المحاكمات المدنية والصادرة عام 1985، بحيث كرس قاعدة تقدم من خلالها التشريع الدولي على التشريع الداخلي، وتنص المادة على أنه عند تعارض أحكام المعاهدات الدولية مع أحكام القانون العادي يتقدم التطبيق الأول على الثاني، بمعنى النص الدولي على النص الوطني أو المطبق في الدول.
ومما تقدم، فإنّ التعاطي المجحف والظالم والذي يصل في منسوب التعامل مع الوجود على أنه سلوك عنصري في بعض منه، لا مبرّر له ولا مسوغ قانونياً أو تشريعياً له. صحيح أن غياب المرجعية الفلسطينية الموحدة في لبنان، وبالتالي ما تشهده الساحة الفلسطينية من انقسام حاد، قد أرخى بظلاله على الواقع الفلسطيني على الأراضي اللبنانية. ولكن الأصح أن ذلك يجب ألّا يُشكل مبرراً للدولة اللبنانية في ما تنتهجه من سياسات مجحفة بحق الفلسطينيين في لبنان. لأن هذه السياسة مبنية على قاعدة ثابتة في التعاطي مع الوجود الفلسطيني، أن لا حقوق لهم في لبنان. وأنه في أحسن الأحوال تحسين للظروف الحياتية لهم، وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية جبران باسيل في لقائه مع الفصائل وبحضور السفير أشرف دبور، وقوله صراحة: «أن لا حقوق لكم في لبنان، حقوقكم هناك على أرض بلدكم»، واستطرد قائلاً: «تحسين الظروف الحياتية أمر من الممكن بحثه والنظر في شأنه».
وما التبديل المتواصل لرئاسة لجنة الحوار اللبناني ـ الفلسطيني، والمشكلة منذ عام 2005، إلّا الدلالة على عدم جدّية الدولة اللبنانية في التعاطي مع حقوق اللاجئين الفلسطينيين، لا بل عدم الرغبة في الخوض المسؤول في حوار جدّي مع الفصائل الفلسطينية في لبنان. وجلّ ما يحصل على رغم تثمينه من قبل الفصائل، عقد اجتماعات متقطعة مع رئيس لجنة الحوار والتي تعاقب على رئاستها عدد من الشخصيات التي نكنّ لها كل التقدير والاحترام. ونحن لا نحمّل رئاسة لجنة الحوار المسؤولية لأننا ندرك أن المسألة أبعد من رغبة ونيّة صادقة متوفرة لدى هؤلاء السادة، بل تتجاوزهم إلى عدم توفر القرار السياسي والتوافق والاتفاق اللبناني ـ اللبناني على منح الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين، وفتح حوار يتناول كل العناوين الفلسطينية في لبنان سلة واحدة.
على رغم الإشارات التي ترسل من هنا أو هناك، والجهود المبذولة على الصعيد الداخلي اللبناني بين المكوّنات السياسية والطائفية من خلال مقاربات في ما بين هذه المكوّنات، بهدف إيجاد رؤية لبنانية موحدة، تُسهل فتح حوار لبناني ـ فلسطيني. ولكن علىرغم ما يلوح في الأفق اللبناني من هذا القبيل من دون الخوض في تفاصيله، إلّا أن الرهانات للبعض في لبنان في انفراجات سياسية دولية وإقليمية من شأنه أن يُعفي الدولة اللبنانية بمكوناتها من استحقاقات منح الحقوق للاجئين الفلسطينيين المتأخرة 66 سنة، والعدّاد الزمني لا ضمانات لتوقّفه عند سقف معلوم في استمرار الدولة اللبنانية في تهريبها هذه الحقوق.