أوقفوا الضجيج… واعملوا على تغيير المشهد!
د. سلوى خليل الأمين
عام وشهران ولبنان بلا رئيس للجمهورية، والكلّ يثير الضجيج، وأحد المسؤولين السياسيين الوارث نيابته ورئاسة الحزب يطالب بالديمقراطية التي لا تشبهه ولا تشبه تفاصيل حزبه العائلي، حين الكلام الإنشائي الذي يثير غرائز الناس سهل وممتع حين نراه واقفاً كرئيس حزب على المنبر يثير حماسة جمهوره بخطة طريق لا يمكننا أن نعتبرها وطنية تخصّ كلّ اللبنانيين، بل هي استمرارية للحزب القائم وجوده على شحذ النفوس ضدّ باقي المكوّنات التي ضحّت من أجل بقاء الوطن سيداً وحراً ومستقلاً وما زالت تعمل من أجل تكريس هذا الشعار الذي بات مستهلكاً في بازارات السياسيين على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، واللافت في الأمر كان ذاك الحماس الطلق وهو يتكلم باللغة العربية وإنْ كانت محكية، التي لا يقيم لها وزناً في بيته ومجتمعه، حين لغة الاستعمار الفرنسي هي السائدة في معاملاتهم العائلية والمجتمعية، مع أنّ اللغة الرسمية للبلاد كما هو وارد في النصوص الدستورية هي اللغة العربية، التي يخجلون من استعمالها، فكيف بالتالي على من يسمع أن يصدّق طروحاتهم الوطنية الهادفة إلى إعطاء الناس دروساً في الديمقراطية والوطنية وما شابه، ومثله نواب ووزراء ورؤساء لا يدرون أنهم يسقطون هويتهم اللبنانية عبر إسقاطهم لغتهم الأمّ، التي هي لغة الضاد.
وفي ناحية أخرى يقف أحدهم الآخر يتحفنا بالادّعاء بنبذ الطائفية والمذهبية، علماً أنّ التيارالذي يتولى أمانته هو من شرّع ونشر مصطلح: نحن «أهل السنة»، علماً أنّ كلّ مسلم يتبع السنة النبوية الشريفة أكان سنياً أوشيعياً، إضافة إلى أنّ المذاهب ليست من جوهر الإسلام المحمدي ودعوته القائمة على النص القرآني القائل: «إننا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
ثم يأتيك أحدهم الثالث وهو نائب ووزير سابق طرد من الحركة التي انتمى إليها بسبب فساده وسرقاته وبات اليوم منظراً سياسياً يقدّم تصريحاته الهمايونية المدفوعة الثمن مسبقاً بكلّ الحقد والضغينة التي تفرّ من تقاسيم وجهه ولسانه بحق رمز من رموز الحياة السياسية في لبنان المعروف بوطنيته وجرأته في حالتي الوفاق والخصام، وفي طروحاته الآيلة إلى محاربة الفساد ومسبّبيه في الوطن، إضافة إلى حرصه على إفساح المجال لوصول الكفاءات إلى المراكز المهمة في الإدارة العامة، على الرغم من أنهم أحرجوه فأخرجوه حين بدأ يطالب بحقوق المسيحيين، وهذا الفعل، ربما في اعتباره، من واجبه وحقه كرئيس أكبر تكتل نيابي مسيحي في وطن قائم نظامه على الأسس الطائفية والمذهبية، وحين الآخرون الذين يعطلون إجراء الانتخابات الرئاسية يجاهرون برفضهم كلّ طروحاته الوطنية عبر عرقلة مطالبه المحقة، وذلك بمحاولاتهم الدؤوبة بسحب البساط من تحت رجليه، من أجل إفشال مخططه الإصلاحي الذي بدأ بلمّ الشمل وطنياً عبر عقد حلف مع حزب الله الذي هو فريق فاعل ومتمكّن على الساحة اللبنانية، أدّى إلى توقيع اتفاق التوافق الوطني الذي قرّب بين اللبنانيين المنتمين إلى الفريقين بعد فرقة قسرية بسبب الحرب الأهلية اللبنانية طالما عكست نتائجها السلبية على أبناء الوطن من كلّ الأطراف.
هذا الاتفاق جمعهم تحت هدف واحد موحد، هو إنقاذ لبنان مما أصابه من خلل سياسي واجتماعي واقتصادي، بالرغم من اختلاف شعبية الطرفين في العقيدة الدينية وفي كثير من العادات والتقاليد، التي عمدوا إلى إسقاطها من أجنداتهم وبياناتهم السياسية والحزبية من أجل الهدف المشترك الذي هو بناء الدولة، ومحاربة العدو الصهيوني، ومصالحة سورية البوابة الأهمّ للبنان على العالم العربي… عنيت به دولة الجنرال ميشال عون.
لو تمعّنا في الضجيج القائم والتصريحات العالية النبرة المقبوضة الثمن، المثبتة تفاصيلها في وثائق «ويكيليكس» ولم يتمّ تكذيبها من قبل دوائر القرار في وزارة الخارجية السعودية لتاريخه، لوجدنا أنّ كلّ هؤلاء الضاجين المفتعلين هذا الضجيج المقرف والفاضح، لا يملكون حرية قرارهم، ولا يجرؤون على كشف المستور الآيل إلى تأخير التوافق بخصوص انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، فالكلّ يعلم من هم خلف التحريض والتأخير، ومن يضع العصيّ في الدواليب، بالرغم من حضورهم جلسات الانتخاب الرئاسية في المجلس النيابي الملغوم بمسارهم الأعرج، ذلك أنّ كلمة السرّ لم تصلهم إلى تاريخه من الخارج السعودي ومعه الأميركي وخلفهما التركي و«الإسرائيلي»، مع العلم أنّ كلّ اللبنانيين قد تابعوا اجتماعات باريس وبيت الوسط في بيروت بين الجنرال ميشال عون والرئيس سعد الحريري وكيف تمّ تسريب أخبار اللقاءين وإيجابياتهما، لنلاحظ بعد عودة الرئيس الحريري إلى الرياض بنقضه كلّ ما اتفق عليه مع الجنرال ونكرانه أيضاً… والسبب ليس مجهولاً بل مقروءاً بدرجة عالية من الفهم والإدراك، مهما حاولوا التشاطر في تسريب البيانات المفخمة بالمطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية وباتهامهم الفريق الآخر بتعطيل الانتخابات وشلّ البلد.
معظم اللبنانيين يدركون أنّ للجنرال ميشال عون الحق بأن يكون رئيساً للجمهورية اللبنانية، فأكثر من ثلثي اللبنانيين، إنْ لم يكن أكثرهم، يؤيّدونه بشكل مطلق، خصوصاً جماهير حزب الله التي لا يُستهان بحجمها وحجم مؤيديها من المستقلين والحزبيّين العلمانيّين أيضاً، لهذا تجرأ الجنرال بطلب الاستفتاء الشعبي أو إجراء الانتخابات الرئاسية من قبل الشعب مباشرة، هذا الطلب أخاف الفريق الآخر الذي أعلن رفضه الاقتراح بحجج واهية، لأنهم لا يبغون بناء وطن ودولة، فكيف لمن هدم الوطن وسلب مقدّراته المالية وأوقعه في المديونية وحرم سحب نفطه والغاز، واستباح إدارات الدولة ومراكزها الأولى والثانية وحتى الثالثة التي هي حق للموظف بالتدرّج الإداري القانوني، وهجّر الطاقات الشبابية وألغى الطبقة الوسطى التي هي عماد الوطن، ومنع تسليح جيش الوطن، أن يقبل باستعادة الدولة هيبتها المفقودة وصلاحياتها القانونية ومحاسبة السارقين والفاسدين ومنهم كبار في هذه الدولة العلية.
ثم أليس الأوْلى بأولئك النماذج البشرية التي تتحفنا صبح مساء بتصريحاتها الهمايونية، الإضاءة على الأمور الخلافية وإبراز الأفكار ووضع تصوّر للغد الذي يحدوهم إلى التوافق على انتخاب الجنرال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وهذا حقه وحق تمثيله الشعبي الواسع، وذلك عبر بدء حوار يدعو إلى التقارب والتجانس، وتوفير مناخات التهدئة، ولجم الأفكار الهدامة، والبدء بالتفكير بالحلول المؤدّية إلى التضامن الوطني بين كلّ المكونات السياسية والطائفية والاجتماعية والثقافية، من أجل بناء الوطن على أسس متينة تحفظ حقوق المواطنين جميعاً دون استثناء. فمهما اختلفت الآراء والارتهانات الخارجية يبقى التعبير الوطني الأهمّ هو إيجاد المعايير الصائبة التي تربط القواسم المشتركة بعضها بالبعض الآخر، بحيث تصبح النتيجة في النهاية مفعول وطني قائم على الشراكة الحقيقية.
في المحصلة، وبعد ما هو حاصل في لبنان من جرائم قتل وخطف وسرقات وخلافه، بسبب فقدان هيبة الدولة الممثلة برئاسة الجمهورية، لا بدّ من إيقاف الضجيج المدفوعة أثمانه، من أجل تغيير المشهد المأساوي الذي أصبح عليه لبنان عبر كلّ مقوّماته الشعبية والسياسية وحتى الاقتصادية، فتلاقح الأفكار فرض وطني واجب، على الجميع إدراجه في أجنداتهم اليومية بهدف مواجهة الأخطار، وأهمّها الثورة الشعبية التي هي نار تحت الرماد، لا أحد يدرك متى يشتدّ سعيرها، ومتى يسقط الوطن في أتون النار الحارقة، خصوصاً واللهيب يحيط بنا من كلّ الجوانب على طرفي الحدود من عصابات «داعش» و«النصرة» والعدو الصهيوني.