الطائف… الإصلاحات الأخرى
حسين ماجد
يواصل الأستاذ حسين ماجد مناقشته التفصيلية للإصلاحات التي أقرّها اتفاق الطائف، وبعد حلقات عدة تناولت رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء ومجلس الوزراء والإصلاحات الأخرى، تتابع هذه الحلقة الحديث عن البنود المتعلقة ببسط سيادة الدولة، وتحرير الأراضي المحتلة من العدو الإسرائيلي، والعلاقات اللبنانية ـ السورية…
ثانياً: بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية.
بما أنه تمّ الاتفاق بين الأطراف اللبنانية على قيام الدولة القوية القادرة المبنية على أساس الوفاق الوطني. تقوم حكومة الوفاق الوطني بوضع خطة أمنية مفصّلة مدّتها سنة، هدفها بسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجياً على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية، وتتسم خطوطها العريضة بالآتي:
1 ـ الإعلان عن حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة اشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية.
2 ـ تعزيز قوى الأمن الداخلي من خلال:
أ ـ فتح باب التطوّع لجميع اللبنانيين دون استثناء والبدء بتدريبهم مركزياً ثم توزيعهم على الوحدات في المحافظات مع اتباعهم لدورات تدريبية دورية ومنظمة.
ب ـ تعزيز جهاز الأمن بما يتناسب وضبط عمليات دخول وخروج الأشخاص من وإلى خارج الحدود براً وبحراً وجواً.
3 ـ تعزيز القوات المسلحة:
أ ـ إنّ المهمة الأساسية للقوات المسلحة هي الدفاع عن الوطن وعند الضرورة حماية النظام العام عندما يتعدّى الخطر قدرة قوى الأمن الداخلي وحدها على معالجته.
ب ـ تستخدم القوات المسلحة في مساندة قوى الأمن الداخلي للمحافظة على الأمن في الظروف التي يقرّرها مجلس الوزراء.
ج ـ يجري توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرة على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
د ـ عندما تصبح قوى الأمن الداخلي جاهزة لتسلّم مهامها الأمنية تعود القوات المسلحة إلى ثكناتها.
هـ ـ يعاد تنظيم مخابرات القوات المسلحة لخدمة الأغراض العسكرية دون سواها.
4 ـ حلّ مشكلة المهجرين اللبنانيين جذرياً وإقرار حق كلّ مهجر لبناني منذ العام 1975 بالعودة إلى المكان الذي هجر منه ووضع التشريعات التي تكفل هذا الحق وتأمين الوسائل الكفيلة بإعادة التعمير.
وحيث أنّ هدف الدولة اللبنانية هو بسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية المتمثلة بالدرجة الأولى بقوى الأمن الداخلي. ومن واقع العلاقات الأخوية التي تربط سورية بلبنان، تقوم القوات السورية مشكورة بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية لبسط سلطة الدولة اللبنانية في فترة زمنية محدّدة أقصاها سنتان تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية وفي نهاية هذه الفترة تقرّر الحكومتان، الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني اللبنانية، إعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي في ضهر البيدر حتى خط حمانا المديرج عين داره، وإذا دعت الضرورة في نقاط أخرى يتمّ تحديدها بواسطة لجنة عسكرية لبنانية سورية مشتركة. كما يتمّ الاتفاق بين الحكومتين يجري بموجبه تحديد حجم ومدة تواجد القوات السورية في المناطق المذكورة أعلاه وتحديد علاقة هذه القوات مع سلطات الدولة اللبنانية في أماكن تواجدها. واللجنة الثلاثية العربية العليا مستعدّة لمساعدة الدولتين في الوصول إلى هذا الاتفاق إذا رغبتا في ذلك.
ثالثاً: تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي
استعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً تتطلب الآتي:
أ ـ العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة.
ب ـ التمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 آذار 1949.
ج ـ اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود.
رابعاً: العلاقات اللبنانية ـ السورية
إنّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميّزة تستمدّ قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسّده اتفاقات بينهما، في شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كلّ منهما. استناداً إلى ذلك، ولأنّ تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميّزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدراً تهديد لأمن سورية وسورية لأمن لبنان في أيّ حال من الأحوال. وعليه فإنّ لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سورية. وإن سورية الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأيّ عمل يهدّد أمنه واستقلاله وسيادته.
بقيت لنا هذه القضايا الثلاثة التي ختمت بها وثيقة الوفاق الوطني «الطائف»، وهي القضايا المتعلقة ببسط سيادة الدولة اللبنانية على كافة أراضيها، وتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، والعلاقات اللبنانية السورية، وسوف نحاول في مقالنا اليوم، وهو الأخير عن الوثيقة، أن نلقي الضوء على ما ورد تحت عناوين كلّ منها وفق الترقيم والتسلسل أعلاه:
ثانياً: بسط سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية: من هي الأطراف التي اتفقت، ومن تمثل وما حجمها ومن أين شرعيتها؟ وعن أيّ وفاق وطني تتحدّث، وكيف ستشكل حكومة وفاق وطني وتضع الخطة الأمنية المفصلة ولمدة سنة؟ هذه العبارات ليست عبارات وثيقة وفاق، إنها أوامر، والغريب أنها مضمونة التنفيذ والنتائج أيضاً. أما القول «الإعلان عن حلّ الميليشيات» وليس القول، «تقرّر الدولة حلّ الميليشيات» هو دليل على أنّ الأطراف المجتمعة هي الميليشيات ذاتها، وأعطت لنفسها مدة ستة أشهر لتسليم السلاح، ولم تقل بجمعه فوراً بدل القول بتسليمه بعد ستة أشهر، لبيعه أو إخفائه. ومع ذلك فإنّ الواقع اللبناني يشير إلى ما تحقق على هذا الصعيد.
واللافت، حصر عملية تعزيز القوى العسكرية جميعها، «بفتح باب التطوع، والإعداد والتدريب والتوحيد والتوزيع» ولم يؤتَ على ذكر التجنيد الإلزامي والتربية الوطنية، والاختيار السليم، والأهمّ من كلّ ذلك هو التغاضي عن موضوع التسليح،
أما مهمة القوات المسلحة فاقتصرت على الدفاع عن الوطن، وعند الضرورة حماية النظام العام، ولم تعتبر عملية التحرير من ضمن هذه المهمة، بل أشارت الى جعل القوات المسلحة قادرة على تحمّل مسؤولياتها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ولم تقل جعلها قادرة على تحرير الوطن ومواجهة العدو والعدوان الإسرائيلي. وأعطيت الصلاحية لمجلس الوزراء بإستخدام القوات المسلحة للمحافظة على الأمن في الظروف التي يقررها، ودون توصيف أو تحديد لهذه الظروف.
وتمّت الإشارة إلى حل مشكلة المهجرين جذرياً، والتي لا تزال وزارتهم تترجّى وتحاور وتماطل، لإعادتهم جميعاً، ولا يعطى الحق بالعودة إلا للمهجر اللبناني، أما إذا كان غير لبناني فيفقد هذا الحق.
ومع تخصيص البند الرابع: للعلاقات اللبنانية السورية. فقد تضمن بند «بسط سيادة الدولة…» يتحدث بإسهاب عن
دور للقوات السورية. والسؤال هو، في غياب الدولة السورية، وغياب الدولة اللبنانية، كيف يتمّ بينهما هذا الاتفاق، ومن الذي أصدر الأوامر لهما، وفرض على سورية وبلطف أن تساعد الشقيق لبنان وحدّدت لهما المدة الزمنية ومتى تبدأ ومتى تنتهي وفرضت على لبنان أن يقبل شاكراً هذه المساعدة، كما فرضت عليه أن يقرّ الإصلاحات السياسية التي وردت في الوثيقة دستورياً؟ ومع أنه لم تحدّد مهام القوات السورية وأماكن تواجدها، فيجب على الحكومتين، ودون أي تقييم لمفاعيل المساعدة التي قدّمت، ومدى تحقيق أهدافها، أن تقرّرا إعادة تمركز هذه القوات، وقد حدّدت سلفاً أماكن تواجدها، وفي هذه المرحلة يسمح للحكومتين أن تتفقا على تحديد حجم ومدة تواجد القوات السورية، وتحديد علاقتها مع سلطات الدولة اللبنانية التي لم تلحظ في المرحلة الأولى، وقد عبّرت اللجنة الثلاثية العربية «السعودية، المغرب، والجزائر» عن استعدادها لمساعدة الدولتين لتحقيق هذا الاتفاق، وللتأكيد والتذكير بديمقراطية اللجنة الثلاثية، فقد اشترطت لتدخلها القول «إذا رغبتا بذلك»، أيّ الحكومتان .
ثالثاً: تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي، هنا «المكتوب لا يُقرأ من عنوانه» بل يتناقض معه، العنوان «تحرير» والاستهلال «إعادة سلطة»، والأسلوب هو استجداء لتنفيذ القرار 425، وتمسك باتفاقية الهدنة، واتخاذ كافة الإجراءات، وتدعيم قوات الطوارئ، وهذه هي الوسائل المتاحة والممكنة للتحرير أو لاستعادة السلطة، دون ذكر لمسؤولية وواجبات الدولة، ودور القوات المسلحة، وتقديمات المقاومة، وتضحيات الشعب، ومعاناة أهل الجنوب المحتلّ، من مجموعة العملاء والخونة والمرتزقة المنضوية تحت اسم «جيش لبنان الجنوبي» الذين كانوا يتقاضون رواتبهم من خزينة الدولة اللبنانية، وقد تناسى المجتمعون أنّ على البعض منهم أن يعود أولاً تائباً إلى الوطن، وأن يتحرّر من رجس العمالة والخيانة بتعامله مع العدو، وهؤلاء هم أعداء المقاومة والمقاومين، كانوا وما زالوا يعادون من حرّرهم وحرّر الأرض.
رابعاً: العلاقات اللبنانية ـ السورية: افترضت الوثيقة وجود علاقات أخوية صادقة مميّزة بين لبنان وسورية، وأعطت لنفسها الحق أن تلزمهما بتجسيد ذلك باتفاقات في شتى المجالات وعلى أن لا يكون أحد البلدين مقراً أو ممراً لتهديد أمن البلد الآخر. وأثمرت هذه التنبؤات علاقات مميّزة ومتميّزة ولكنها لم تكن يوماً ممتازة، وعلاقات أخوية ولكن دون صدق ومودّة، ولم يكن أحدهما ممراً أو مقراً للمساس بأمن الآخر، بل كان مساعداً وداعماً لأعدائه. والسؤال الأهمّ دائماًهو: من الذي مثل سورية في هذا المؤتمر الطائف وتعهّد بتنفيذ هذه المقرارت والالتزامات؟
هذا هو إتفاق «الطائف» الذي إذا صلحت فيه بعض النصوص عطلتها النفوس وحرفتها الرؤوس، وثيقة غير شرعية، وضع نصوصها نواب مدّدوا عشرين سنة لأنفسهم، وأقرّوها في مجلس من الممدّدين والمعيّنين، ولم تعرض على اللبنانيين،
ولم تقم دولة الوفاق الوطني ولم تشكل كذلك حكومة هذا الوفاق، وقاطعت فئة كبيرة الانتخابات النيابية التي أجريت عام 1992. وحكم، بل تحكم أمراء الحرب الأهلية الطائفيون ومن خلفهم، واستبعد الوطنيون العلمانيون المقاومون، وأقاموا نظامهم الطائفي، على قاعدة الغالب والمغلوب، وعلى العدالة في توزيع المسروقات في ما بينهم، واستمرّوا بدولتهم الريعية
ينفقون على أنفسهم ولتوطيد سلطتهم حتى أنهم لم يدفعوا رواتب موظفيهم. وقسّم البلد بين الأمن والاقتصاد، ولا مكان للإنماء والاجتماع.
الطائف وصانعوه والمشرفون على تنفيذه أوصلوا الوطن إلى ما وصل إليه، حتى غدا الانتصار والتحرير على علاقة جدلية تصاعدية مع الجور والفساد، وهذا مما لا تفسير له ولا يتحمّله هذا الشعب المقاوم، ومع ذلك جميعهم يحذرون من المساس بنصوص هذا الإتفاق، والشعب المقاوم يقول، مهما زاد الفساد لا يستطيع إبادة الصلاح ويؤمن بحتمية تغيير هذا الواقع، فالشرائع الإلهية قد نسخت بعضها «لأحلّ لكم بعض ما حرّم عليكم» سورة آل عمران 50، ولنعد جميعاً إلى عقولنا، وندرس واقعنا، ونحدّد حاجاتنا، ولنراجع دستورنا وقوانينا، ولنصلح تعليمنا وإعلامنا، ونعيد بناء دولتنا المدنية ووطننا، وطن الشعب المقاوم والحرية، والحب، والرفاهية، لبنان العقل، والعلم، والعمل، لبنان العروبة، والعلمنة، لبنان العدالة، والعمران.