مدخلات الميدان مخرجات السياسة
جمال الكندي
هي جملة تختزل الأزمة السورية وتسيّرها بين مدّ وجز، وتحكي التجاذبات السياسية بين القوى الفاعلة في أزمتها بحسب مدخلات الميدان، فتعلو أصوات في فترات معينة وتخفت في فترات أخرى. إنه الواقع السوري الجديد الذي أصبح ميدانه العسكري هو الحكم والفيصل على مخرجات السياسة.
المعطيات الميدانية والتي كانت دائماً متغيّرة في ظلّ الأزمة السورية أجبرت القوى الداعمة للجماعات المسلحة على تغيير مواقفها العدائية تجاة الحكومة السورية، ولو بصورة نسبية قد يرى البعض أنها بسيطة لكنها قد تكون فاعلة في بعض جوانبها. إنها نظرية سياسية عسكرية أثبتت صدقيتها في الأزمة السورية، فمحور السياسة يتأثر تأثراً بالغاً بمدخلات الميدان العسكري، وهنا نستذكر انتصارات الجيش العربي السوري في مدينة القصيْر وريفها وما تبع ذلك من انقلاب سياسي كبير وتغيّر في لغة خطاب الغرب تجاه الحكومة السورية، وكانت من آثاره السياسية قبول المحور المعادي للحكومة السورية بوجودها وتمثيلها في «جنيف 2»، والذي كان له الدور الكبير والفاعل في إبراز الأزمة السورية من خلال وجهة النظرة الحكومية لما يجري في سورية، لأنّ «جنيف 2» أعطى الفرصة للدولة السورية للتحدث ولإظهار ما تواجهه على حقيقته، أيّ أنها تواجه مؤامرة كونية يراد منها تدمير الدولة السورية.
إنجاز «جنيف 2» المتمثل بوجود وفد الحكومة السورية كان من بين أسبابه الرئيسية المعطى الميداني الجديد، الذي وظف في السياسة من خلال الإطلالة الأولى للحكومة السورية والتي حقق فيها الوفد السوري أهدافاً عدة.
التفوّق على الأرض إذن هو العامل الأساسي الذي يقوّي ورقة أيّ مفاوض، لذا طالبت بعض الدول الغربية قبل انعقاد مؤتمر «جنيف 2» أن يكون هناك توازن في ميزان القوى لدى المسلحين والجيش العربي السوري قبل أيّ حوار مع الحكومة السورية، وهذا يدلنا على أهمية مدخلات الميدان في التصريف السياسي.
اليوم وبعد دخول الأزمة السورية عامها الخامس نرى أنّ مقدمات انعقاد «جنيف 3» قائمة وبقوة وبرغبة متسارعة من قبل الغرب وأميركا، فأزمات المنطقة التي جاءت بعد الأزمة السورية أثرت في مجريات الأمور في سورية، وأخذ الإرهاب صفة العالمية وتخطى الجغرافيا السورية وأصبح يهدد المصالح الغربية والعربية.
فبعد ظهور الكيان الداعشي وانتشاره الكبير والذي يعتبر من مدخلات الميدان الخاطئة للقوى المعادية للحكومة السورية، والتي جاءت عكسية على من أوجدها في الميدان السوري فانقلب السحر على الساحر، وارتفعت الأصوات السياسية التي كانت بالأمس لا ترغب في وجود رأس الهرم السياسي في سورية، الرئيس بشار الأسد، ها هي اليوم تقول إنّ الضامن لاستقرار سورية في الفترة المقبلة القادرة على محاربة «داعش» هو وجود الرئيس بشار الأسد في الرئاسة خلال الفترة الانتقالية المقبلة، وهذا المتغيّر السياسي البارز كان بسبب سوء القراءة الغربية للأزمة السورية.
إن الأيام المقبلة سوف تظهر لنا تنازلات في سقف المطالبات الغرببة والأميركية لحلّ الأزمة السورية، والسقوف العالية التي كانت في الماضي أنزلها «داعش»، لذا نرى التقارب الأميركي ـ الروسي في الشأن السوري بات أقرب من ذي قبل، واستطاع الروسي إنزال الأميركي من على الشجرة العالية التي تسلقها وكان لا يعرف كيف ينزل منها، أو كان يريد مسوغاً يحفظ ماء وجهه لتكون استدارته أكثر واقعية.
وجود «داعش» بقوة على الأرض هو الذي أجبر أميركا والغرب على التغيير والتبديل تجاه سورية، من إسقاط النظام إلى التعاون معه ولو لمرحلة زمنية معينة، وأعتقد أنها قد تطول ما دام الإرهاب يضرب المنطقة، ومدخلات الميدان الأخيرة وتقهقر داعش أمام الجيش السوري في الحسكة والبادية السورية كانت عناوين مهمة للغرب لطوي صفحة في سورية وبدء صفحة جديدة عنوانها محاربة داعش والنصرة وأخواتها في سورية والمنطقة.
في المقابل، نرى أنّ بعض العرب المتورّطين في الحرب على سورية، والذين يوفرون الدعم الكبير للجماعات المسلحة، لم تصل إليهم المعلومة الجديدة بعد، وهي أن الأمور انتهت… ومسألة إخراج الرئيس السوري من المشهد السياسي المقبل في سورية باتت من الماضي بسبب المعطيات الجديدة في الميدان السوري والمدخلات العسكرية التي تصبّ في صالح الدولة السورية في سلسلة جبال القلمون، ومدينة الزبداني، وكذلك الإخفاقات المتكرّرة لما يُسمّى عاصفة الجنوب في درعا، والفشل في توظيف تقدّم المسلحين في الشمال السوري لإنشاء منطقة عازلة وحصرهم في جغرافية معينة تأخذ طبيعة المدّ والجز بين المسلحين والجيش السوري.
إنّ تحرير مدينة الزبداني والذي بات قريباً سوف يغيّر واقع المشهد العسكري في سورية، وسيصرف إنجاز الزبداني ومحيطها في «جنيف 3» في حالة انعقاده، وهذا ما يُسمّى تصريف المنجز العسكري في السياسة كما حدث في القصيْر وريفها، لذا نرى هذه الهستيريا من قبل أعداء سورية والعمل على تشتيت الجيش السوري وجرّه إلى معارك أخرى تستنزفه عسكرياً ولوجستياً لتأخير إعلان تطهير مدينة الزبداني.
الحكومة السورية والمعارضة الوطنية تتجهان بقوة وبرعاية دولية إلى إيجاد التوافق السياسي بينهما، لذا نرى أنّ الغرب بدأ يهمّش من احتضنه بالأمس، والمقصود هنا الائتلاف السوري المعارض، لمصلحة إبراز المعارضة الداخلية، فهي واقعية إلى حدّ ما، وتستطيع قراءة المشهد السوري بعيون سورية، وتدرك معنى التشاركية السياسية وتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والحزبية، فهل سنشهد نجاحاً سياسياً يؤدي إلى حلّ الأزمة السورية قريباً من البوابة الروسية والتي تحتضن معارضة الداخل؟ وهل هنالك ضوء أخضر أميركي للروس لتهيئة الطريق لـ«جنيف 3»؟
abojmlah gmail.com