صور مثل الأغاني ورمزيّة مستساغة وأشواق ورؤى

رؤوف قبيسي

لا حكم على الشعر والشعراء والفنون بأشكالها المختلفة، أفضل وأدق من حكم الزمن. كان الشعراء في تاريخ الأدب العربي بالمئات بل بالآلاف، لكن، كم بقي منهم في الذاكرة الجماعية، وعلى صفحات الكتب وفي الدراسات الأدبية؟ عدد قليل من دون شك، ما يعني أنه مهما جهد النقاد في الترويج لشاعر، يبقى الزمن وحده الفيصل!

في القرن الماضي وضع الشاعر جورج صيدح كتاباً عنوانه «أدبنا وأباؤنا في المهاجر الأميركية» جامعاً فيه أسماء مئات الشعراء اللبنانيين والسوريين الذين عاشوا في المهاجر الأميركية، وما ألفوا من كتب ونشروا من صحف ومجلات. وإذا سألت ناقداً أدبياً في هذه الأيام أن يذكر لك أسماء شعراء المهجر، فأغلب الظن أنه سيسرد أسماء عشرة أو عشرين شاعراً في أكثر تقدير من بين الأسماء الكثيرة التي دوّنها صيدح في كتابه القيّم. الأمر نفسه يسري على الشعراء الذين كتبوا بالعربية مذ وجدت للعربية أبجدية. أما الآخرون، الأقل شهرة، فالزمن يطوي ذكرهم، كلما تعاقب جيل بعد جيل.

هناك استثناءات في هذا الحكم الذي يبدو قاطعاً، إذ يتفق أحياناً أن يقيّض الزمن لشاعر منّسي، ناقداً أو أو باحثاً، يخرجه «من بين الأموات» إلى الشيوع. هذا ما حصل لابن الرومي الذي كان منسياً، كما يقول طه حسين، حتى جاء عصر الدراسات الأدبية «فكوفىء عن صبره، ودرس فيه أكثر مما درس في غيره من الشعراء، لا نكاد نستثني في ذلك، إلا المتنبي وأبا العلاء».

هذا ما حصل أيضاً لفيفالدي وقطعته الموسيقية الخالدة «الفصول الأربعة»، وما حصل لفان غوغ، الذي ظل منسياً حتى جاء عصر صار اسمه فيه على كل شفة ولسان. وهذا ما حصل لجبران مع كتاب «النبي» الذي شع بعد موته وترجم إلى أكثر من أربعين لغة.

لماذا هذه المقدمة وموضوع النص هنا كتاب لشاعر لبناني شاب اسمه زاهر العريضي؟

الجواب: هناك مئات من الشباب والصبايا يدلون بدلوهم في بحر الشعر، يتكلفون المهمات الصعبة في التأليف والنشر. هم لا ينشرون لأنفسهم بالطبع، وإنما ينشرون للناس، ليكون لهم دور في فضاء الثقافة الذي يحفل بكثير من الأسماء. هذا حقهم، ولا بد للقراء من أن نشكرهم على ما يبذلون من جهد ويتكلفون من مشقة، رغم اختلاف رأينا في ما يكتبون وينشرون، لأن الكتابة، سواء كانت نثراً أو شعراً، من أشق الصناعات، خاصة إذا كان الشاعر من الناس الذين يقدرون الكلمة ولا يمتهونها. هؤلاء، وإن لاقوا إجحافاً، عليهم أن يصبروا، لأن حكم الزمن سوف يسري، ويأخذ للمجيد منهم حقه من التقدير.

قصائد الشعراء الجدد يكتنفها غموض كثيف. وكنت كتبت مرة قائلاً إنني لا أفهم بعض الشعر الحديث، ونقدت منه الذي أفهمه، فانبرى لي شاعر كان رأيي سلبياً في بعض ما كتب، لا في كل ما كتب، منتقدأ كيف أكتب عن شعر لا أفهمه، مع أنني كتبت فحسب عن الشعر الذي أفهمه. وقد ألح عليّ بعض الأصدقاء أن أرد عليه فلم أفعل، لأنه حرّف كلامي عن موضعه!

أعود إلى زاهر العريضي وبين يّدي كتابه «رحيل في جسد»، وهو مجموعة قصائد نثرية حافلة بصور تشبه الأغاني، لناحية إيقاعها وكلماتها المنتقاة بعفوية .

وجدت في الكتاب انسياباً سلساً وشاعراً يحلم طيلة الوقت، ليظهر ما في نفسه من مشاعر وهواجس وأفكار. رتب قصائده بشكل جميل، واضعاً كل قصيدة في إطار كأنها لوحة، مثل طفل بنى بيتاً لما بين يديه من دمى.

في قصيدة «عودة» مثلاً نقرأ هذه الكلمات:

«أعدني / إلى طفولتي/ إلى بيتي/ وأغراضي البسيطة/ أعدني/ إلى القبلة الأولى/ وابتسامة أمي/ حيث تركض الطفولة/ بين العشب الأخضر/ مع أحلامي الغريبة.

أعدني/ إلى حبي البريء/ الذي لم يتعدّ القبلة/ إلى ذاك البريق/ حيث الأمطار الغزيرة/ تبلل أطراف جسدي/ وطعم النبيذ/ ونار الموقدة».

قصائد الكتاب تروق قارئاً يهوى الشعر القائم على السهولة، وعلى شيء من الغموض يحفز المخيلة، ضمن رمزية مستساغة تظهر نفس الشاعر، وأشواقه ورؤياه، من غير تعقيد والتواء، وزركشة لفظية، يصطنعها كثير من الشعراء «الكبار»!

حتى عندما يلجأ هذا الشاعر الشاب إلى الكتابة في المرأة الحبيبة، نراه يكتب فيها من دون تصنع، وإذا هيامه في الحبيب توحد الجسد بالروح، كما في قصيدة «مهووس» التي يقول فيها:

«نتعانق / كأنها المرة الأولى/ تثيرني/ أفقد بصري/ تتهمني بالهوس/ كيف أفسر لها/ أنني مصاب بفقدان الذاكرة».

تتجسد غنائية الشاعر وكلماته المنتقاة بعفوية صادقة في قصيدة «هناك يا صغيرتي» التي وجدتها أجمل قصيدة في الكتاب ومطلعها:

هناك يا صغيرتي / على هذا التراب / زرعوا قمحاً / وأمطرت السماء / لبسوا ثياب الثورة / جاؤوا ليلاً / مرّوا من هنا/ سمعوا صوتك / قبلوك / تركوك على فراش الأحلام / ورحلوا مع الفجر.

لا أريد أن أكون مدّاحاً، لأن النقد إذا لم يكن موضوعياً هو ضرب من الغش أو كلام معسول في غير محله، لذلك أقول إن «رحيل في جسد» كتاب يرضي قارئاً مثلي في كثير من الوجوه، لكني كنت أتمنى لو أن الشاعر أولى قواعد اللغة قدراً أكبر من اهتمامه، ففي الكتاب أخطاء إملائية ونحوية وطباعية، مثل همزة القطع التي كان يجب حذفها من كلمات مثل «الإنتظار» و «الإنتصار» و «الإنتحار». وهناك جمل مثل «هذا الجدران» بدلاً من «هذه الجدران» أو «هذه الجدر» وهي الأصح، أو «مدمن على تمزيق الأوراق» بدلاً من «مدمن تمزيق الأوراق»، لأن الفعل أدمن يتعدى بنفسه.

وجدت هذا التساهل أيضاً وأنا أتصفح بسرعة كتابه الآخر «أوف لاين»، ففيه «عشرة سنوات» بدلاً من «عشر سنوات» و «تشعر النساء بالمساواة حين تكتشفن» بدلاً من «حين يكتشفن» و «ملامح وجهي التعيس» بدلاً من «وجهي التعس»، وحرف العلة التي كان يجب أن تحذف بعد «لم» الجازمة في جمل مثل «لم يرى وجه الشمس» و «لم يصلي بعد اليوم» و «لم يبقى له» و»لم يتعدى».

هناك أيضاً كلمات يمكن استبدالها بكلمات أجمل، كمثل الفعل تعبق في جملة «حين لن تعبق رائحتك». ألا يوافقني الشاعر، أن كلمة «تعبق» هنا ثقيلة، وكان من الأفضل لو استخدم كلمة أخف وقعاً مثل تزهو أو تفوح؟، أو حين يقول «يبحث عن طفل، عن أي أحد» مستخدماً «عن» وحرف «الألف» بهمزة القطع، مرتين في جملة قصيرة.

الشاعر موفّق في قصائده، لناحيتي البنية وشجن الكلام، ولو أردت أن أجاري هواي لقلت المزيد في الكتاب، لكني أترك القارئ يكتشف بنفسه روح هذا الشاعر وما في شعره من حرارة التوهج. وإذ أشرت إلى بعض الهفوات فذلك توخياً للدقة، ووضع الأشياء في نصابها الصحيح، كما يقول أصحاب البلاغة.

هذه الهفوات أخيراً ليست إلاّ عوسج قليل في حديقة غناء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى