الولايات المتحدة وإرهاب الدولة – علاقة قديمة

رضا حرب

قليلون الذين سمعوا عن المذكرة السرية «التبرير للتدخل العسكري الأميركي في كوبا» والمعروفة بالاسم الرمزي «نورث وودز» التي وضع البنتاغون وقيادة الأركان المشتركة خطوطها العريضة عام 1962 لتبرير الحرب على كوبا. تشمل الخطة أعمالاً «شيطانية» بكلّ ما للكلمة من معنى. الخطة بما تشمله من عمليات قتل وإرهاب وكذب على الرأي العام لتضليله تؤكد ما قاله البروفسور ميشال تشوسودوفسكي «العقيدة العسكرية الأميركية التي تنصّ على الدور المركزي للضحية في إنتاج الأحداث المأساوية لتبرير أعمال عسكرية تبدو في الظاهر إنسانية».

في أوائل الستينات من القرن الماضي، بعد الهزيمة التي تعرّض لها المرتزقة الكوبيون في خليج الخنازير، انكبّ كبار القادة العسكريين في الولايات المتحدة على صياغة برنامج لسلسلة من الأعمال الإرهابية وتنفيذ عمليات اغتيال لمدنيين في مدن الولايات المتحدة. وضع عسكريو البنتاغون وهيئة الأركان المشتركة المذكرة المعروفة باسم «التبرير للتدخل العسكري الأميركي في كوبا»، ووقع عليها رئيس الأركان المشتركة الجنرال ليمان ال. ليمنيتزر. المذكرة السرية المكوّنة من 97 صفحة تشرح بالتفصيل مخطط الولايات المتحدة لهندسة ذرائع مختلفة تبرّر غزو الولايات المتحدة لكوبا.

تدعو المذكرة المخابرات المركزية «سي أي آي» وعملاء حكوميين آخرين للقيام بأعمال إرهابية داخل الولايات المتحدة وخارجها، على البرّ وفي البحر والجوّ، تشمل قتل مدنيين كوبيين والقيام بعمليات اغتيال لشخصيات كوبية صديقة للولايات المتحدة وتفجيرات وخطف في فلوريدا وإغراق قوارب اللاجئين الكوبيين في عرض البحر، ثم تقديم أدلة وهمية تدين نظام فيدل كاسترو.

وإلى جانب اغتيال مدنيين كوبيين تشير الوثيقة الى قتل أميركيين، وخطف الطائرات وتدمير قوارب وسفن أميركية والقيام بعمليات إرهابية عنيفة ووهمية في المدن الأميركية في فلوريدا وحتى في واشنطن. الهدف من هذه الخطة الشريرة إلقاء اللوم على نظام فيدل كاسترو لإثارة الرأي العام الأميركي حتى يتقبّل فكرة غزو عسكري أميركي لكوبا.

كما تشير المذكرة الى خطة تعطيل مرافق الاتصالات في كوبا التجارية والعسكرية، وخلق اضطرابات وحالة شقاق في المجتمع الكوبي. وتشير المذكرة الى الوسائل والأدوات والجهات التي سوف تقوم بتنفيذ العمليات السرية.

وتشير المذكرة الى سلسلة من الحوادث في خليج غوانتانامو حيث القاعدة العسكرية الأميركية والهجمات المنسقة تنسيقاً دقيقاً لتكتسب الحملة المصداقية المطلوبة كما جاء في الفقرة أ.

1 ـ نشر الكثير من الإشاعات، استخدام محطة راديو سرية.

2ـ أصدقاء كوبيون باللباس العسكري يتجاوزون السياج لتنفيذ هجمات على القاعدة.

3 ـ إلقاء القبض على مخرّبين اصدقاء داخل القاعدة.

4 ـ بدء عمليات شغب قرب البوابة الرئيسية للقاعدة يقوم بها أصدقاء كوبيون.

5 ـ تفجير ذخيرة داخل القاعدة: تشعل حرائق.

6 ـ إحراق طائرة على أرض القاعدة العسكرية عمل تخريبي .

7 ـ إطلاق قذائف هاون على القاعدة من خارجها.

8 ـ القبض على فرق من مهاجمة تقترب من البحر من مدينة غوانتانامو.

9 ـ إلقاء القبض على ميليشيا تقتحم القاعدة.

10 ـ تخريب سفينة في الميناء. حرائق كبيرة النفثالين.

11 ـ إغراق سفينة قرب مدخل الميناء، إقامة جنازات لضحايا وهميّين.

ومن ضمن المخططات الشيطانية، تتطرّق المذكرة الى امكانية عمل سيناريو يعرض بشكل مقنع بأنّ الطيران الكوبي أسقط طائرة مدنية مستأجرة أقلعت من الولايات المتحدة وعلى متنها طلاب جامعيون يقومون في رحلة لقضاء الإجازة. الوجهة يجب ان تمرّ فوق كوبا.

في القاعدة الجوية «إغلين اي اف بي» يتمّ طلاء طائرة حتى تكون نسخة عن طائرة مدنية مسجلة تكون ملكاً لمؤسسة تابعة لـ«سي أي آي» في منطقة ميامي. في الوقت المحدّد سيتمّ استبدالها بالطائرة المدنية الفعلية وعلى متنها مسافرون بأسماء مستعارة يتمّ اختيارهم بعناية. الطائرة الفعلية تتحوّل الى طائرة بدون طيار.

سيتمّ تحديد موعد الطائرة بدون طيار والطائرة الفعلية بالتحليق جنوب فلوريدا، ومن تلك النقطة تبدأ الطائرة الفعلية المحمّلة بالركاب الهبوط التدريجي الى أدنى ارتفاع وتعود مباشرة الى القاعدة «انغلين» لإنزال الركاب وتتمّ اعادتها الى حالتها الأصلية. الطائرة بدون طيار تستمرّ بالطيران. عندما تصل الى الأجواء الكوبية تبدأ بإرسال ندءاءت استغاثة تقول انّ الطائرة تتعرّض لهجوم من قِبل طائرات «ميغ» كوبية. البث سيتوقف عندما يتمّ تفجير الطائرة بواسطة إشارات الراديو.

اللافت انّ المذكرة تشير إلى حادثة سفينة «ماين» الأميركية الشهيرة بعبارة «تذكروا ماين». ترتيب عملية مشابهة لحادثة إغراق السفينة «ماين» في خليج غوانتانامو وتوجيه اللوم إلى كوبا، «يمكننا تفجير سفينة أميركية في خليج غوانتانامو وإلقاء اللوم على كوبا، ونشر أسماء الضحايا في الصحف الأميركية سيسبّب موجة من السخط الوطني».

كالعادة تقوم الصحافة الأميركية بحملة إعلامية واسعة الهدف منها إثارة السخط لدى الرأي العام الأميركي لتبرير أجندة عسكرية تبدو في ظاهرها إنسانية. كانت المذكرة وسيلة لخداع الرأي العام الأميركي والمجتمع الدولي لدعم حرب للإطاحة بالزعيم الكوبي الجديد.

لا بدّ من الإشارة هنا الى انّ السفينة العسكرية «ماين» التي اُغرقت في المياه الاقليمية الكوبية عام 1898 واستباقاً لأيّ تحقيق لمعرفة أسباب الانفجار الذي قتل ثلاثة أرباع طاقم السفينة، وجهت الولايات المتحدة الاتهام لأسبانيا، وقام وليام راندولف هيرست وجوزيف بوليتزر رواد الصحافة الصفراء بكتابة مقالات أشعلت العداء لأسبانيا… «تذكروا ماين، وأسبانيا الى الجحيم»، وعلى اثرها اندلعت الحرب الأميركية ـ الأسبانية.

ووفقاً للمذكرة السرية التي كُشف عنها عام 2001، القيام بسلسلة من العمليات مجموعها 12 عملية، منها عملية «التحطيم»، وعملية «الرحلة المجانية»، وعملية «تغيير الاتجاه»، وعملية «الشبح»، وعملية «الخدعة القذرة». كلّ واحدة من هذه العمليات لها رجالها وأدواتها وضحاياها وأهدافها.

يبدو من المقترحات انّ عملية «نورث وودز» تستكمل العمليات التي جاءت عام 1961 في «مشروع كوبا» والمعروف ايضاً باسم «عملية النمس Operation Mongoose» التي ترأسها الجنرال ادوارد لانزديل رئيس «عمليات مشروع كوبا» بالتنسيق مع المخابرات المركزية ممثلة بـ«وليام كينغ هارفي» التي تشمل مهاجمة مرافق أميركية في كوبا.

«نورث وودز» في سورية

بعد مرور خمسين سنة بالضبط على صدور المذكرة «التبرير للتدخل العسكري الأميركي في كوبا» وقعت أحداث درعا السورية، عام 2011 عندما تعرّض مدنيون لعمليات قتل قام بها قناصة مجهولون. وظف المناهضون لسورية ولمواقف سورية تكنولوجيا وسائل التجسّس والاتصالات ووسائل الإعلام الصفراء والخبرات المكتسبة في العمليات القذرة لتلفيق اتهامات لم تثبت صحتها.

قامت مجموعة من المتظاهرين بتدمير وسائل الاتصالات في المدينة، وظهرت أجهزة هواتف الثريا للاتصال بقناتي «الجزيرة» و«العربية» وغيرهما من محطات «الكذب»، وقام قناصة بإطلاق النار على المتظاهرين ثم اختفوا، على الأرجح اندسّوا بين المتظاهرين، رغم التناقض في روايات شهود العيان إلا انّ التهمة للدولة السورية كانت جاهزة وبدأ الإعلام الغربي والعربي حملة مبرمجة ومجهّزة مسبقاً لإثارة سخط الرأي العام العربي والغربي ضدّ الدولة السورية والرئيس بشار الأسد.

على اثر تلك التظاهرات صدر موقف من مقرّ الناتو في بروكسل يقول بأنّ الناتو والقيادة التركية العليا يضعون خططاً لتسليح «المتمرّدين» بأسلحة متطوّرة ضدّ المدرّعات وطائرات الهليكوبتر. كما ناقشت تلك الجهات تجنيد الآلاف من الإسلاميين من بلدان الشرق الاوسط والعالم لقتال الدولة السورية، ويعمل الجيش التركي على إيواء المقاتلين وتدريبهم وتسليحهم وتأمين عبورهم الى سورية.

وبعد عام من مجزرة درعا وقعت مجزرة الحولة المروّعة، ومرة اخرى استباقاً لأيّ تحقيق وُجّهت اصابع الاتهام إلى القوات السورية في عملية مجهّزة مسبقاً لإثارة السخط العالمي على الرئيس بشار الأسد. وصلت الوقاحة ببعض وسائل الإعلام الى استخدام صور لمجزرة العامرية في العراق على انها للحولة.

وبعد مرور سنة أخرى، تمّ استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية. مرة ثالثة واستباقاً لأيّ تحقيق تمّ توجيه الاتهام للدولة السورية. اللافت في الأمر قيام حملة إعلامية غير مسبوقة في ايّ إعلام أصفر لإثارة سخط شعبي ودولي ضدّ سورية مما دفع عدة دولاً عديدة إلى قطع علاقتها الدبلوماسية مع سورية، وتقدّمت الصفوف دول عربية و«إسرائيل» تحرّض الرئيس أوباما للقيام بعمل عسكري على أساس «أنّ الرئيس الاسد تخطى الخطوط الحمراء التي وضعها أوباما نفسه». عزل سورية دولياً وعربياً استخدام الجامعة العربية كمنصّة كان عملاً منظماً وممنهجاً. ظهرت مؤشرات حقيقية على انّ اوباما سيهاجم سورية، إلا انّ التحرك الروسي السريع وتجهيز الدرع الصاروخية والتهديد الإيراني بحرب شاملة واعتراض عدد كبير من جنرالات البنتاغون، أدّى الى تراجع أوباما وقبول التسوية التي طرحها الروسي.

أوفدت الامم المتحدة القاضية السويسرية كارلا ديل بونتي، وبعد إجراء التحقيقات اللازمة كشفت انّ الإرهابيين هم من استخدموا السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، تمّ إنهاء عمل القاضية ديل بونتي واستمرّت عملية التحريض ضدّ سورية. ولاحقاً برزت حقائق جديدة حول من قام بتزويد الإرهابيين بالغازات السامة وأدلة تثبت انّ تركيا سهّلت إدخالهم الى سورية، الا انّ الصحافة الصفراء العربية والغربية لم تتوقف عن الكذب لخداع الرأي العام.

ما حدث في سورية جاء بالتفصيل في مذكرة «عملية نورث وودز»، تقوم أجهزة مخابرات بتنفيذ عمليات القتل وتلفيق التهمة للجيش السوري لإحداث شقاق طائفي ومذهبي وإثارة الرأي العام العربي والغربي لتبرير عمل عسكري ضدّ سورية. طالما هناك حاقدون وهناك أناس يبيعون أنفسهم وهناك أغبياء يصدّقون الاتهامات الملفقة، لن تتوقف الولايات المتحدة عن الكذب على شعوب العالم لتبرير برامجها السرية.

الهجمات الإرهابية مساء الجمعة 13 تشرين الثاني 2015 قام بها إرهابيون كانت المخابرات الفرنسية تعرفهم جيداً وتعرف توجهاتهم وانتماءاتهم وتتابع تحركاتهم. شيء مريب ان يهاجموا ستة مواقع في آن واحد. الحلقة المفقودة يمكن ان تكشف تورّط أجهزة مخابرات. هل الهجمات مبرّر لتحوّل في السياسة الغربية تجاه سورية؟ الأسابيع أو الأشهر المقبلة كفيلة بذلك…

المركز الدولي للدراسات الامنية والجيوسياسية

www.cgsgs.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى