رحيل شديد اللهجة

أحمد علي هلال

لم تكن خشيته الموت، بقدر ما كان الموت ذاته نديمه وملح لياليه الأخيرة، في بيروت وفي عواصم أخرى. فالفقد وإن كان خطاباً كما سيتجلّى في مدوّناته شديدة الايحاء والالتصاق بإنسانيته، وسبره تاريخ الألم، كان خطاباً إبداعياً بامتياز، لكن الرجل كان حارس تلك الثنائيات التي عرفها تاريخ الأدب. فالحبّ عنده هو المعادل الجمالي والرؤيوي وليس فقط اللغوي للموت، وبه استشرف موته الخاص غير مرّة. لكنه وهو المتطيّر من الموت، اشتقّ في ذاكرة الإبداع عناوين دالّة ومحايثة لمتونها السردية، في الرواية والشعر وفي المقالة الأدبية، لكن لعنة الجغرافيا التي سكنته طويلاً ما كان له إلا أن يترجمها روايات يعيشها لتكون الرواية هو بالذات، ويكون هو الرواية المستحيلة. فصاحب «الحزن في كلّ مكان»، و«أسرار النرجس»، و«مصرع الماس»، و«رأس بيروت»، و«حبّ شديد اللهجة»، و«كلّ لقاء بك وداع»، و«العصافير»، و«أحبك وبالعكس أحبك» وغيرها من أعمال إبداعية توزّعت على الشعر والقصص والرواية، ومديات التجريب المغامر الفادح الأثمان وشديد الدلالة انطلاقاً من أزمنته وأمكنته التي عايشها وعايش فقد أحبته بها، لكن تلك المعايشة والتي أسفرت عن رؤية لديه توزّعتها أعماله بل جلّها على الأرجح، كانت أكثر إخلاصاً لفن الرواية منها للفنون الأخرى، لأنها رؤيا للذات وللعالم وللآخر، ما كان لها إلا أن تحضر عند رجل أدرك أن السرد هو أكثر من بوح، وأن النصّ هو أكثر من نصّ، لذا كان حلمه أن يكتب ليعيش أكثر، ولتلك المعادلة الفادحة كان ياسين رفاعية أقرب إلى إعادة تاريخ المعيش والتقاطه بعدسة رؤيته وصفاء لغته، التي وإن حضر بها الحبّ خطاباً، حضر بزمنه وفضاء المحلوم به، وكيف يستعيد أزمنة بعينها من الموت والنسيان، معاندة ضارية سيكون لها تصاديها في مدوّنات مشرعة على تأويل باذخ، تصبح الكلمة فيه مسافة مخنوقة بين الشهيق والزفير، وبين نبض القلب ورعشة الحبر.

في تعدّد أزمنة ياسين رفاعية وأمكنته، كان أسير مجازه الخاص، وهو المتعدّد في ذاته، والمجرّب بخصوصيات التعبير ومدى ما ينفتح به ذلك التعبير على فضاءات إنسانية خالصة، لا يقيدها بالواقع لكنه يبني واقعاً جديداً ولا يوثقها، إنما يذهب في روايتها. هو الحاضر إذن بطلاً طليقاً في مدوّناته الكبرى، التي ستظلّ في راهن الأدب ومستقبله، ذاكرة الحرف واكتشافه، وذاكرة اللغة المفتوحة على متخيّلها بقدر من رهافة القلب وصلابة الإرادة، كيف نستعيده إذن إن لم نجعل من مدوّناته/ أسفاره الأخرى، في مرايا تأويل ثقافي هو الأقدر على التقاط لحظاته المسروقة من زمنه حاضراً ومن غيابه حاضراً.

أن نذهب إلى عوالم ياسين رفاعية، يعني أن نشتق للحياة غير اسم ودلالة وعنوان، ليظل هو العاشق الطليق. وما الكتابة هنا سوى واحدة من أفعال عشقه، التي طرد بها الموت، بل توسّل تأجيله ولو قليلاً، ليرى الحياة بعينين مفتوحتين، هما عين القلب وعين اللغة.

كاتب وناقد فلسطيني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى