هل تعادَلَ الوضع في حلب يا لاعب الشطرنج؟ ماذا جرى في ستالينغراد… وفي حرب تموز؟

ناصر قنديل

– قال أحد الملوك لابنه الذي حزن لخسارة جيشه في إحدى المعارك، أنت تلعب الشطرنج لتتعلّم فنّ الحرب، فهل يمكن أن تربح شوطاً بلا خسارة حجارة على رقعة اللعب؟ فأجاب لا. فسأله وهل تعلّمت أن تقارن حجم خسارتك بخسارة خصمك، فإنْ خسرت جندياً وخسر قلعة تقترب من النصر، وإنْ خسرت حصاناً وخسر وزيراً تقترب أكثر. ومعيار النصر هو موت الملك، فقارن ما خسرته بما خسره خصمك تعرف إنْ كنت تقترب من النصر دون أن تقع في أحادية النظر لما خسرته وحدك. وتابع الملك إذا كان الدرس الأول هو ألا تتوقع ربحاً برقعة نظيفة لا تخسر فيها شيئاً، والدرس الثاني أن تقيس خسائرك بخسائر خصمك لتعرف كم تقترب من النصر، فإنّ الدرس الثالث هو أن تتعلّم كيف تخاطر بإغراء خصمك بخسارة منك لتستدرجه إلى كمين يدفع فيه خسارة أكبر. فاللاعب الماهر هو الذي يضع جندياً طعماً يُغري خصمه ليكشف حصانه فيصيده له، أو يضع حصانه طعماً ليطال منه القلعة أو الوزير، لأنّ معيار الاقتراب من النصر هو المقارنة بين الخسائر. ولأنّ النصر هو الاقتراب من الملك، وخير اللاعبين الذي يقدّم الوزير طعماً ليطال رأس الملك ويحمي ملكه من التعرّض للخطر، لكن الدرس الأهمّ هو أن لا تحسب الخسارة والربح إلا بالإجمال، فقد تفقد حصاناً في لحظة لا يكون خصمك قد فقد إلا جندياً بينما يكون قد فقد قبل قلعة ووزيراً، فتبقى أنت الأقرب للنصر، وهذا هو الفارق بين المتفرّجين واللاعبين، المتفرّجون يصفقون لمن يربح في لحظة ربحه، وبعد قليل يصفقون لخصمه عندما يربح في لحظة ربحه، من دون أن يهتمّوا مَن هو الأقرب للنصر. وإذا انقسم المتفرّجون بين اللاعبين بتأييدهم وتشجيعهم يحزنون للاعبهم عندما يخسر حصاناً وهو يقدّمه طعماً للنيل من وزير خصمه، ليُنهي اللعبة بالكلمة السحرية التي ينتظرها اللاعبون والمتفرجون معاً «كش ملك»، ثم يصفقون له دون أن ينتبهوا أنّ ربحه ما كان ليحدث لولا هذه الخسارة التي حزنوا لها، وربما اتهموه بالغباء، لأنه خاطر بها. يحزنني يا ولدي أن تخوض اللعبة بعقل متفرّج.

– يتباهى محمد بن سلمان أنه لاعب شطرنج، وتقول المعلومات إنه كان على خط ساخن مع المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون يتابعان معارك حلب أو يديرانها على الأغلب. وما تشهده معارك حلب ينطبق في الكثير من وجوهه على المعايير التي حدّدها حديث هذا الملك مع إبنه، فوقوع الإنجاز الذي حققته الجماعات المسلحة في توقيت يلي إنجاز الجيش وحلفائه، لا يعني أن نتصرف كمتفرّجين وننبهر بالطازج، وننسى المقارنة في القيمة والأهمية، ونقع في السذاجة بالقول والترداد، لقد انقلبت وجهة المعركة في حلب، بينما الذي جرى منذ شهرين حتى الآن هو أنّ الجماعات المسلحة خسرت القلعة بتعابير الشطرنج، بينما خسر الجيش والحلفاء الحصان، وكانت الخسارة لتعادل خسارة الوزير لو تمكّنت الجماعات المسلحة من تحقيق ما حلمت به، أيّ تأمين ممرّ آمن بديل للكاستيلو إلى الأحياء الشرقية المحاصرة، وإحكام طوق مقابل على الأحياء الغربية، لكن الثابت والأكيد أنّ هذا لم يحدث، وطريق الأحياء الغربية البديل عن الراموسة عامل وآمن من بني زيد والكاستيلو، بينما طريق جنوب وشرق حلب عبر الراموسة فليس عاملاً ولا آمناً، رغم تلاقي النظر، وفرضية تسلل عناصر مشاة ليلاً تحت خطر التعرّض للنار.

– المبالغة في تقييم ما أنجزته الجماعات المسلحة، ينطلق أولاً من افتراض أنها ستستسلم بعد إحكام الحصار من جهة الكاستيلو، وفشل الهجمات الخمس بفكّه هناك، وهذا تقدير في غير مكانه، لأنه بقدر ما هي معركة حلب مفصلية ومصيرية إقليمياً ودولياً، فهذا يعني أن ترمى في أتونها كلّ المقدّرات وتختبر فيها كلّ الفرضيات، والسذاجة وحدها توصل للقول إنّ معركة واحدة تحسم حرباً وتوصل الخصم للتسليم بالعجز والفشل، خصوصاً عندما تكون للنصر والخسارة مترتبات بحجم ما ترمز إليه وتختصره وستختزنه نتائج معارك حلب. أما الصدمة فمصدرها عدم توقع خسارة الجيش السوري وحلفائه مواقع بأهمية التي خسرتها، رغم توقع حدوث هجمات بضراوة ما حدث، وفي هذا رومانسية مبالغ بها أيضاً لثلاثة أسباب على الأقلّ، أولها أنّ العلم العسكري يقدم تفريقاً بين شروط الهجوم والدفاع، تمنح المهاجم فرصة تحشيد ما يلزم بالقياس لهدف الهجوم، وتحجب عن المدافع فرص تأمين كلّ مواقعه دفعة واحدة وبالمستوى ذاته بما يلزم لصدّ أيّ هجوم مهما بلغت الحشود التي ترصد له، والانتصار في الكاستيلو والليرمون يقول هذا في صورة معاكسة. وثانياً أنّ ثمة تخيّلاً افتراضياً يحكم الصدمة مستمدّاً من فترة الهدنة وما قبلها، وقوامه أنه عندما يقدّم الطيران الروسي المساندة اللازمة تتدحرج الانتصارات، وعندما لا تتدحرج فالمشكلة هي هنا، وهذا غير صحيح. فالفارق كبير بين معركة ما قبل الهدنة والمعركة الحالية، فتلك كانت التمهيد وهذه هي الفاصلة، أما الطيران ففعله أساسي، لكن هل كان قادراً على تأمين نصر الجيش الروسي نفسه في أفغانستان، وهل أمّن للأميركيين قدرة الخرق في الرقة باعتماد قوة برية هي «قوات سورية الديمقراطية»؟ أما ثالثاً، فإنّ التكامل بين المشاة والطيران لا يتحقق بمعارك الالتحام، والالتحام وسيلة الذي لا يملك سلاح جو لتعطيل قدرة من يملكه، وخوض الدفاع بالتنسيق مع الطيران من جهة، وبتعطيل فرص تمكن الكثرة العددية المهاجمة من إبادة القلة المدافعة، يستدعي الانكفاء إلى خطوط دفاع متينة، تحتمي فيها القوة المنسحبة وتحفظ قدراتها، وتتيح للطيران والقوة النارية التعامل مع المهاجمين المتمركزين حديثاً في مواقع لم يتمكّنوا منها بعد، تمهيداً لهجوم معاكس.

– بالمقارنة بين ما أنجزته الجماعات المسلحة وما أنجزه الجيش السوري وحلفاؤه، أو عملاً بقواعد الشطرنج ودروس الملك، بين خسائر الفريقين، وليس الانفعال بلحظة الخاسر والرابح، وتقييمهما معاً منذ بدأت هذه الجولة، يبدو أنّ الجيش والحلفاء حققوا حصاراً حقيقياً مطبقاً على الأحياء الشرقية من حلب عبر الإمساك بالكاستيلو، بينما لا زال طريق الأحياء الغربية سالكاً للسيارات والمحروقات والمؤن والذخائر والجيش والإمداد، رغم قطع طريق الراموسة، عن طريق بديل هو الكاستيلو ـــ بني زيد، ويبدو في المقابل أنّ قطع طريق الراموسة تمّ على الفريقين، حيث لا يتمكن أيّ طرف على الأقلّ حتى الآن من اعتماده للإمداد وتنقل الناس والمؤن والمحروقات والذخائر والآليات بشكل آمن وسلس، وسقف استعماله هو بتسلل عدد محدود من الأفراد مشياً على الأقدام ليلاً في مناطق محفوفة بالمخاطر وتحت النيران. وبالتالي خسر الجيش حصاناً وخسرت الجماعات المسلّحة وزيراً، بلغة الشطرنج، أما بخسائر القوات، فيكفي ما تؤكده مواقع الجماعات المسلحة عن خسائر هذه المعارك الممتدة من شهر ونصف الشهر، والتي تزيد عن مئات الرجال، بينما لا تزيد خسائر الجيش والحلفاء عن عشرات الشهداء.

– بالعودة إلى الذاكرة القريبة قبل عشر سنوات، مثل هذه الأيام دخل الجيش «الإسرائيلي» في حرب تموز إلى بنت جبيل، وتقدّمت دباباته في وادي الحجير وسهل الخيام، فكيف تعاملت المقاومة؟ ألم تدعه يتوغّل إلى حيث يسهل التعامل معه وأبادت القوة المهاجمة، وتركت الانطباع الأول يُوحي بانتصاره، ولم تهتزّ الركب ولا الأقدام ولا الأصابع ارتجفت على الزناد؟ وفي الذاكرة البعيدة، عندما نقول إنّ حلب هي ستالينغراد القرن الحادي والعشرين، فلنتذكر أنّ ستالينغراد اخترقت حتى باتت تسقط كلياً، وأنّ الهجوم المعاكس لتحريرها الذي حمل اسم اورانوس تعرّض للحصار من الألمان، حتى تمّ اختراق الحصار بهجوم ثانٍ اسمه زحل، تعرّض للتشتيت فكان هجوم ثالث هو زحل الصغير الذي نجح بتحقيق الإطباق، وانقلب معه مسار الحرب، واستهلك هذا بعد ثلاث سنوات حرب، ثلاثة شهور حاسمة، من ضمنها أكثر من مئة هجوم والتفاف، لكن بعدما رجحت الكفة وثبتت، بدأ التدحرج، واندفع الجيش الروسي حتى أبواب برلين.

– ما يجري في حلب هو اليوم الرابع والثلاثون من حرب تموز 2006 وقد تأخر عشر سنوات، لتخوضه بالنيابة عن الجيش «الإسرائيلي» قوة الاحتياط الأكفأ منه في تحمّل بذل الدم وتقديم الضحايا، ومن حولها كلّ المال والسلاح من حلف يبدأ من الرياض وينتهي بواشنطن، حيث تخوض هيلاري كلينتون حرب التمهيد لمشروعها الرئاسي في المدة الباقية من عهد باراك أوباما، والحسم قادم حكماً، والنصر آتٍ حكماً، والمعادلة واضحة حكماً، وقبل انتهاء آب، ومع الاحتفال بعيد النصر في حرب تموز، في الرابع عشر من آب سيتذكر الناس معنى الوعد الصادق، وخطاب سيد المقاومة، ومعنى كلامه الخالد، «كما وعدتكم بالنصر دائماً أعدكم بالنصر مجدّداً».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى